
تشهد الزراعة الأردنية اليوم فصلا جديدا من فصول الصمود والنهضة، بجهد المزارعين وبصيرة السياسات والتوجيهات الملكية التي آمنت بأن الأرض الأردنية قادرة على أن تثمر رغم شح المياه وتقلب المناخ، ففي عام بدأ بموسم مطري ضعيف استطاع القطاع الزراعي أن يحول التحدي إلى قصة نجاح وطنية، حيث بدأ الربع الثاني من عام 2025 بنسبة نمو بلغت 8.6 بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة.
وسجل القطاع خلال عام 2024 نموا بلغ 6.9 بالمئة مقارنة بعام 2023 وهو معدل يتجاوز متوسط النمو العام للاقتصاد.
وفي الربع الأخير من العام، وصل النمو إلى 8.4 بالمئة على أساس سنوي في مؤشر واضح على تصاعد الأداء وتحسن الإنتاج والتسويق الزراعي خلال نهاية العام.
وانعكست الأرقام والنسب فعليا على الاقتصاد الوطني، فقد بلغت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي نحو 6.9 بالمئة، وهي نسبة تمثل قيمة مضافة تقدر بـ1.7 مليار دينار بحسب تقديرات دائرة الإحصاءات العامة.
وفي الربع الأول من عام 2025، سجل القطاع نموا جديدا بلغ 8.1 بالمئة، مساهما بـ 0.45 نقطة مئوية من أصل 2.7 بالمئة هي نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال تلك الفترة، وفي الربع الثاني بلغت نسبة النمو 8.6 بالمئة.
وأكد خبراء ومختصون لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، أن هذا الأداء اللافت لم يكن وليد الصدفة ولا تحسن الظروف المناخية، بل ثمرة رؤية استراتيجية واستثمارات نوعية في التقنيات الزراعية الحديثة مكنت القطاع من تجاوز تحديات شح المياه وتراجع الموسم المطري
وقال المستشار والخبير الدولي في الأمن الغذائي الدكتور فاضل الزعبي، إن النسبة تثير الانتباه خصوصا في ظل موسم مطري كان الأقل من العام السابق، مبينا أن الفترة الماضية شهدت توسعا ملحوظا في الاستثمارات الزراعية، سواء من خلال مشاريع ري حديثة أو بيوت محمية تعتمد على تقنيات الزراعة الذكية، ما ساعد على تعويض النقص في الموارد المائية.
وأشار الى أن الصادرات الزراعية لعبت دورا محوريا، إذ ارتفعت بنسبة واضحة مدفوعة بزيادة الطلب الإقليمي، خصوصا من أسواق الخليج وهو ما عزز قدرة المزارعين الأردنيين على توجيه إنتاجهم نحو أسواق ذات عائد أعلى.
وأوضح الزعبي، أن ضبط تكاليف الإنتاج وتوفير تسهيلات تمويلية للمزارعين وظهور مبادرة دعم الشحن الجوي للمنتجات الزراعية كأداة حاسمة في تعزيز تنافسية الصادرات الأردنية، مكن المزارعين من الوصول السريع إلى أسواق بعيدة وضمان وصول المنتجات الطازجة بجودة عالية، ما رفع من قيمتها المضافة وعزز مكانة الأردن كمصدر موثوق للمنتجات الزراعية، إضافة إلى تحسين سلاسل التوريد والتعبئة والتغليف الذي رفع من القيمة المضافة للمنتجات الأردنية، ما جعلها أكثر جاذبية في الأسواق الخارجية.
وأضاف، إن القطاع قادر على تحقيق معدلات نمو إيجابية بوتيرة أكثر اعتدالا، فالتوسع في الاستثمارات والتقنيات الحديثة واستمرار برامج الدعم الحكومي للشحن الجوي يوفر قاعدة صلبة للاستمرار، غير أن محدودية الموارد المائية والتقلبات المناخية تبقى عوامل ضاغطة قد تحد من تكرار قفزة استثنائية كالتي شهدناها في الربعين الأول والثاني.
وتوقع أن يستقر النمو في حدود 5–6 بالمئة إذا استمرت السياسات الداعمة والطلب الإقليمي على نفس الوتيرة، مع إمكانية تسجيل مفاجآت إيجابية في حال توسعت الصادرات أو تم إدخال تقنيات إنتاجية أكثر كفاءة.
واشار إلى التقنيات الزراعية الحديثة والمبادرات الحكومية التي كان أثرها واضحا في تحقيق هذا النمو، أكثر من أي عامل آخر، مبينا أنه بالرغم من محدودية الموارد المائية وتراجع الموسم المطري مقارنة بالعام السابق، كان من المتوقع أن يتراجع الإنتاج، لكن إدخال أنظمة ري ذكية بالتنقيط والمراقبة الرقمية للتربة والرطوبة مكن المزارعين من إدارة المياه بكفاءة عالية، إضافة إلى توجيهها بدقة نحو المحاصيل الأكثر إنتاجية.
وأوضح أن البيوت الزراعية المحمية والزراعة المائية ساعدت على توفير بيئة مستقرة للنباتات، ما يضمن استمرارية الإنتاج وجودته حتى في ظل الظروف المناخية الصعبة، مؤكدا أن مبادرات التحول نحو الزراعة الذكية أسهمت في رفع كفاءة استخدام الطاقة والموارد، حيث جرى اعتماد أنظمة تحكم رقمية في عمليات الري والتسميد وربطها ببيانات مناخية آنية، الأمر الذي قلل من الهدر ورفع من العائد الاقتصادي للهكتار الواحد.
كما أن إدخال تقنيات التعبئة والتغليف الحديثة داخل المزارع ومراكز التجميع ساعد على تقليل الفاقد وتحسين القيمة المضافة للمنتجات قبل وصولها إلى الأسواق.
ونوه الزعبي بأن هذه التجربة تقدم دروسا مهمة للقطاعات الأخرى في الأردن، فالتحول الرقمي والاعتماد على الابتكار ليس خيارا ثانويا بل هو شرط أساسي لتعزيز الكفاءة والإنتاجية، مؤكدا أن ما أثبتته الزراعة هو أن الاستثمار في التكنولوجيا يمكن أن يعوض عن محدودية الموارد الطبيعية، وأن السياسات الحكومية التي تدعم هذا التحول قادرة على خلق نمو مستدام حتى في بيئات صعبة، وهذا النموذج يمكن أن يحتذى به في قطاعات مثل الصناعة والطاقة المتجددة، حيث يمكن للتقنيات الحديثة أن ترفع الكفاءة وتفتح آفاقا جديدة للنمو.
ودعا الى ضرورة التعامل مع التحديات المستقبلية وفقا لإستراتيجيات بنيوية عميقة ومنظمة، لضمان عدم نمو القطاع كقفزة ظرفية بل مسار اقتصادي مستدام يعزز الأمن الغذائي الوطني.
وقال إن الحل يكمن في توسيع الاستثمار بتقنيات الري الحديثة وإعادة استخدام المياه المعالجة، إلى جانب التوسع في الزراعة المحمية والرأسية والمائية وتطوير أصناف مقاومة للجفاف والحرارة، مؤكدا ضرورة حماية الأراضي الزراعية من التوسع العمراني ودعم التحول إلى الطاقة المتجددة والتمويل الميسر والتصنيع الزراعي المحلي لتقليل الكلف.
كما دعا إلى تسريع التحول الرقمي في الزراعة وتطوير البنية التحتية وسلاسل التبريد والنقل للحفاظ على تنافسية الصادرات، موضحا أن استدامة النمو الزراعي تتطلب تكاملا بين التكنولوجيا الحديثة والسياسات الحكومية والشراكة بين القطاعين العام والخاص لضمان تحويل النمو الحالي إلى مسار مستدام يعزز الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني.
من جهته، أكد وزير الزراعة الأسبق الدكتور رضا الخوالدة، أن الزراعة الأردنية تعيش اليوم مرحلة جديدة من النمو المدروس والمستدام، حيث أن الحكومة وضعت الزراعة في صلب أولوياتها ضمن رؤية التحديث الاقتصادي والخطة الوطنية للزراعة المستدامة مع متابعة ملكية حثيثة ودعم مباشر من أعلى المستويات، ما يعزز ثقة المستثمرين والمزارعين ويضمن استقرار السياسات وتحفيز الاستثمار والإنتاج.
وأضاف، إن القطاع الزراعي شهد نموا ملحوظا في حجم الاستثمارات والصادرات، فقد ارتفعت قيمة الصادرات الزراعية من نحو 1.1 مليار دينار في عام 2023 إلى أكثر من 1.5 مليار دينار في عام 2024، وهو ما يعكس زيادة الطلب الخارجي على المنتج الأردني ودوره في دعم الاقتصاد الوطني.
وأشار الخوالدة إلى أن التوجه نحو الابتكار وتحديث الأساليب الإنتاجية بات سمة واضحة في المشهد الزراعي من خلال توظيف التقنيات الحديثة وممارسات الزراعة الذكية وتحسين نوعية البذور والمحاصيل المحلية، إلى جانب تطوير أنظمة الري وتوفير المياه والتعاون البحثي مع المركز الوطني للبحوث الزراعية (NARC) والمنظمات الدولية مثل الفاو (FAO) وإيكاردا (ICARDA).
وقال إن ارتفاع مؤشر أسعار المنتجين الزراعيين خلال الفترة الأخيرة يعكس تحسن المردود المالي للمزارعين ويدل على حيوية القطاع وقدرته على تحقيق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني.
وأوضح، أن هناك عدة مخاطر قد تبطئ من وتيرة هذا النمو، أبرزها تأثيرات التغير المناخي، وندرة الموارد المائية، وتذبذب الأوضاع المالية، وارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج مثل الأسمدة والطاقة.
بدوره أكد وزير الزراعة الأسبق المهندس سعيد المصري أن تحديات متراكمة تواجه القطاع الزراعي الأردني وتستدعي الى وقفة جادة وتعاون شامل بين جميع الأطراف ذات العلاقة، وتتمثل في إدارة وتنظيم الإنتاج الزراعي، حيث تعاني بعض المواسم من فائض كبير في إنتاج محاصيل معينة، يقابله ضعف في التسويق أو عدم القدرة على تصريف هذه المنتجات، ما يؤدي إلى خسائر مباشرة للمزارعين ويؤثر سلبا على استقرار السوق الزراعي.
وقال المصري، إن غياب التوجيه المنظم للمزارعين فيما يخص المساحات المزروعة ونوع وكميات المحاصيل، يؤدي إلى اختلال واضح في التوازن بين العرض والطلب، وهذا يتطلب تدخلا عاجلا لتصميم آلية وطنية تشاركية تعنى بإدارة الإنتاج بشكل دقيق ومستدام.
ودعا الى تشكيل هيئة تنسيقية دائمة تضم ممثلين من وزارة الزراعة ووزارة المياه واتحاد المزارعين، تتولى مسؤولية توجيه الإنتاج الزراعي بما يتناسب مع احتياجات السوق المحلي والإقليمي وتمنع حدوث الاختناقات التسويقية التي باتت تتكرر سنويا.
وبين، أنه نحتاج إلى استراتيجية سنوية لإدارة الإنتاج، يتم وضعها بناء على دراسات سوقية وتقنية دقيقة وتنفذ عبر تقنيات ذكية تعتمد على البيانات والتحليلات والتنبؤات المناخية والزراعية، لضمان العدالة في توزيع المحاصيل على المناطق الزراعية وتحقيق الكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد.
وشدد على أن هذه الاستراتيجية لا بد أن تسبقها عملية حوكمة شاملة للقطاع الزراعي، سواء على مستوى المؤسسات الرسمية أو الفاعلين في القطاع الخاص، مشيرا إلى أن الحوكمة أصبحت اليوم شرطا أساسيا لنجاح أي تمويل أو دعم مستقبلي، خاصة في ظل التحول العالمي نحو الشفافية والاستدامة في الاستثمار، وذلك من خلال الأدوات الحديثة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي الذي سيساعد في ضبط العمليات الإنتاجية والتسويقية وتوفير بيانات لحظية لاتخاذ القرار المبني على الواقع.
وقال المصري، إن الحكومة بالتعاون مع خبراء الزراعة ومؤسسات التمويل، تسير بخطى واضحة نحو إيجاد حلول مبتكرة وجذرية لهذه التحديات، داعيا إلى ضرورة إشراك الشباب والرياديين في هذا التحول من خلال دعم الأفكار الزراعية الذكية وتحفيز الابتكار في الإنتاج والتصنيع الغذائي والتسويق، لتكون الزراعة الأردنية أنموذجا في التكيف مع المتغيرات وتحقيق الأمن الغذائي المستدام.
–(بترا)
مصدر الخبر: الزراعة الأردنية تشهد فصلاً جديداً في الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي .