يتقدّم مشروع الدكتور عبدالله الغذامي بوصفه محاولة لتفكيك مفهوم «المؤلف» من الداخل، في سياق مصطلح «المؤلف المزدوج»، الذي لا يشير إلى ازدواجية في الهوية فحسب، بل يفتح أفقاً لفهم العلاقة المركبة بين الذات الكاتبة وموقعها داخل الحقل الثقافي. فالمؤلف المزدوج هو الذات التي تكتب تحت وطأة قلق التمثيل وهاجس السلطة، التي تحاول من خلال النص أن تراوغ النسق وتعيد إنتاجه ضمناً.
وينهض مفهوم «المؤلف المزدوج» كما بينه الدكتور عبدالله الغذامي في هذا الإطار؛ بوصفه مفتاحاً لقراءة هذا الانشطار. ولا سيما المؤلف الذي على وفق هذا التصور لا يملك حريته التعبيرية بوصفه صانعاً للنص، بل يتحرّك ضمن دوائر متشابكة من التفاوض الرمزي، تحكمها آليات السلطة وتؤطرها شروط التمثيل.
ويقدم الدكتور الغذامي في مشروعه النقدي رؤية مغايرة للنص الشعري، تنطلق من مركزية النص الثقافي بوصفه بنية حاملة لآليات الرقابة الذاتية، التي تمنع المؤلف من الإفصاح الكامل عن ذاته. ومن هذا المنظور، يتجلّى شعر المتنبي نموذجاً لما يسميه الدكتور الغذامي بالمؤلف المزدوج، حيث تتجسد الذات الكاتبة في مفارقتها القصوى بين صوت معلن يعيد إنتاج نسق الهيمنة، وآخر مضمر يكشف عن انكسارات الهوية وقلق الانتماء.
ولم يعد مفهوم الازدواج في تمثيل المؤلف حكراً على علاقته بالنص أو بالمؤسسة الثقافية، بل امتدّ إلى فضاء العلاقة المركبة بين المؤلف والقارئ، حيث يتجلى الأخير بوصفه سلطة تأويلية مضمرة، لا كياناً حيادياً كما يخيل في تصورات القراءة التقليدية. فالقارئ في هذا السياق ليس مجرد متلقٍّ سلبي، بل مؤسسة قرائية مشبعة بأيديولوجيا نسقية تمارس نوعاً من الرقابة الناعمة على النص، وتفرض على المؤلف إنتاج خطاب مزدوج ظاهره يتماهى مع أفق التلقي السلطوي، وخفيّ يضمر التمرّد والرفض المؤجل.
إذ تعاد صياغة علاقة المؤلف بالقارئ على نحو تأويلي، حيث يتحول النص إلى منطقة اشتباك بين سلطتين؛ سلطة المعنى الظاهري التي تتناول ذائقة القارئ المؤدلج، وسلطة المعنى الباطني التي تسعى لتفكيك النسق عبر بلاغة التمويه والتضمين. وهنا، لا تعود البلاغة أداة جمالية خالصة، بل تصبح في مشروع الدكتور عبدالله الغذامي تقنية ثقافية لحماية المعنى من الانكشاف، وإعادة تدوير الخضوع في قوالب إبداعية، فالجمال في هذه الزاوية لا يُفهم إلا كقناع رمزي تتوارى خلفه بنية السلطة، فضلاً عن أن سلطة القول لا تنحصر عند حدود المؤلف بل تنسحب إلى القارئ ذاته، الذي يتحول إلى أداة نسقية لتثبيت المعنى، وضبط حدود الفهم والتأويل. فالنص الأدبي لا يقاس بجماليته الظاهرة، بل بقدرته على الإخفاء وعلى خوض حرب تأويلية تدار على مستوى الشكل، وتُخاض في الخفاء تحت سلطة المعنى. إذ يكون المؤلف واعياً بازدواج موقعه وخاضعاً للقارئ بوصفه سلطة، ومتمرداً عليه بوصفه تأويلاً مراوغاً.
يشكّل التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي في مشروع الدكتور عبدالله الغذامي لحظة انعطاف حاسمة، لا على مستوى الإجراء النقدي فحسب، بل على مستوى إعادة تعريف الوظائف المعرفية لكل من النص، والكاتب، والناقد. ففي هذا الجانب لم يعد النص موضوعاً للتذوق الجمالي أو مرآة لذات مبدعة، بل حقل دلالي مشبع بالتمثيلات الثقافية التي تعيد إنتاج السلطة داخل اللغة.
ومن هنا تتأسس مقولة «المؤلف المزدوج» بوصفها مظهراً من مظاهر هذا التحول؛ لا باعتبارها توصيفاً تقنياً لبنية الكتابة، بل باعتبارها مفتاحاً لفهم تشظي الذات الكاتبة بين الانصياع لسلطة النسق والمقاومة الرمزية له.
لقد أدرك الدكتور الغذامي أن الجماليات ربما تتحول إلى أقنعة ناعمة للسلطة، ولا سيما أن الوعي الجمالي ذاته يكون امتداداً خفياً لمنطق الهيمنة والتمويه الثقافي. ولم يعد الناقد مفسراً للنص أو مجملاً لدلالته، بل يحفر في طبقاته الخفية، باحثاً عن الأنساق المستترة التي تشكّل الأيديولوجيا المتوارية خلف سحر البيان؛ محاولة لتفكيك البنى الرمزية التي تشتغل داخل النص بوصفها أدوات لإعادة إنتاج النسق.



