تحولات الوعي كثيرة ومتجددة سواء في الأدب أو في غيره من الفنون بحكم الاكتشافات العلمية والثورات التكنولوجية والاختراعات المتقدمة في جميع الميادين والأصعدة، وهذه التحولات تجرُّ وراءها تغيراتٍ عديدة في المعالجات السردية على سبيل المثال لا الحصر، ولعلني أستعرض في هذا السياق ما جاء في أحد مقاطع رواية «فضيحة في بوهيميا» لآرثر كونان دويل، حيث لجأ ملك بوهيميا متنكراً إلى المحقق الشهير «شيرلوك هولمز» ليخلصه من شرك الابتزاز الذي أوقعته فيه إحدى سيدات المجتمع الراقي.فكان الحوار على النحو التالي:- أنا عاجز عن فهم جلالتك، فلو أبرزت الشابة خطاباتها للابتزاز أو لأغراض أخرى فكيف ستثبت صحتها؟- من الخط.- هراء، يمكن الطعن بأنه مزوّر.- والأوراق من مذكرتي الشخصية.- ستقول إنها مسروقة.- وماذا عن ختمي الخاص؟- مقلّد.- وصورتي؟- اشترتها.- لقد كنا في الصورة معاً.- آه، يا إلهي! هذا سيّئ جداً! لقد ارتكبتَ جلالتك حماقةً كبيرة.لو دققنا النظر في هذه المعطيات الإثباتية في القرن التاسع عشر؛ أي في وقت كتابة هذه الرواية، لوجدنا أن بعض الأدلة المادية التي تدل على هوية شخص بعينه وتميزه مثل: خط الكتابة، وأوراق المذكرة الشخصية التي تحمل اسم وكنية الشخص، والختم الخاص، والصورة الشخصية، فبإمكاننا القول إنها أشياء قد فقدت قيمة الدليل الحاسم الذي يدلنا على شخص محدد بشكل قاطع لا غبار عليه، وربما كانت هذه الأدوات، كلها أو بعضها، حتميةَ القطع والثبوت في تحديد الهوية الفردية أو تغيير مسار الجُنح والقضايا الجنائية في القرون التي سبقت القرن التاسع عشر، ويبقى الدليل الدامغ الذي لا يمكن تجاوزه في ذلك العصر هو وجود شخصين معاً في صورة واحدة، ويا لها من معضلة عصية وفقاً لوعي وأدوات ذلك الزمن!أتساءل والحال هذه ماذا لو طُرحت مسألة وجود شخصين معاً في صورة واحدة كدليل دامغ على إثبات شيء ما في عصرنا هذا، ترى هل سوف نُسلّم بسلامة الدليل وحقيقته القاطعة؟ طبعاً لا، وربما نتعجب من ذلك، فوجود برامج تعديل الصور والفيديوهات والمونتاج في وقت سابق، وبروز الذكاء الاصطناعي الآن في فضاء الحياة اليومية واستعمالاتها، كل هذه الأدوات الثورية الحديثة قد هزت وانتقصت من مصداقية الصور والفيديوهات ولا يمكن التعويل عليها، وذلك لإمكانية التزييف والتلاعب بها. وربما أن أدواتنا الإثباتية القاطعة التي نُثبت بها الآن إثباتاً دقيقاً ونبتُّ بها بتاً صارماً في أعقد القضايا والوقائع كبصمة الإصبع وبصمة العين وتحليل الـDNA، أقول ربما تكون قرائننا القوية هذه مجرد أدوات هشة يمكن دحضها والطعن فيها وحتى تزييفها بكل سهولة في العقود القادمة، فالوعي الإنساني متطور بالضرورة، وفي تطوره ونموه لا بد عليه أن يهمش ويقصي بعض الأدوات والاستدلالات القديمة التي لم تعد صالحة ويستدعي ويستحدث أدوات وقرائنَ وأدلة جديدة يتحرك بها حتى تحين عملية التغيير القادم التي لا مناص منها.




