من شرم الشيخ، انطلق قطار الحل بعد توقيع اتفاقية السلام، معلناً بداية مرحلة تتطلب القدرة على ترجمة التعهدات السياسية إلى إجراءات فعلية على الأرض. ما وقّع يمثل محطة انطلاق، لكن المسار أمام كل الأطراف مليء بالتحديات، حيث كل خطوة تحتاج إلى قراءة دقيقة للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.
والسؤال ليس ما إذا كانت الأطراف ملتزمة، بل كيف سيترجم الالتزام إلى أدوات فعالة تحمي الاستقرار وتمنع أي انزلاق محتمل؟
معالجة جذور النزاع
في اليوم التالي لتوقيع الاتفاقية، أبرز الإعلام الغربي مجموعة من الهواجس الجوهرية. فرأى مثلاً؛ أن الاتفاقية تمثل هدنة مؤقتة أكثر من كونها سلاماً شاملاً، وأن بعض البنود قد لا تعالج جذور النزاع، مع غياب التزام واضح بإنشاء دولة فلسطينية.
هذه الملاحظات، رغم كونها تقييمات خارجية، لكنها تسلط الضوء على غموض بعض النقاط، وتزيد الضغوط على الأطراف المعنية في مرحلة التنفيذ. واستدراك هذا الغموض باكراً قد يكون ضرورة إستراتيجية، حيث تتطلب المرحلة تقييم كل خطوة على الأرض ومواجهة أي تهديدات قد تعيق استمرار مسار السلام.
في ضوء هذه الهواجس، يبقى الرهان اليوم ليس فقط على نص الاتفاق، بل على ما يبديه الرعاة الدوليون والإقليميون من استعداد لتحمّل مسؤولية إيجاد آليات متابعة حقيقية. فهذا الاتفاق، وإن حمل طابعاً سياسياً، يفتح مساحة عمل أمام القوى الضامنة لإثبات أن السلام لا يُقاس بإعلانه، بل بقدرة الأطراف على تحويله إلى مسار قابل للاستمرار.
آليات لضمان عدم التعطيل
وهنا تُطرح الأسئلة: ما الوسائل التي ستستخدمها الولايات المتحدة لضمان التنفيذ؟ كيف ستوازن بين الضغط والدعم والإشراف المباشر؟ وما الدور الذي ستلعبه مصر في المراقبة والمتابعة لضمان الالتزام بالاتفاق؟ وهل ستشارك دول، مثل تركيا وقطر، بفعالية في دعم تنفيذه، أم سيقتصر حضورها على الجانب الرمزي؟ وهل يكفي هذا الدعم الدولي والإقليمي للحفاظ على الاستقرار أمام التحديات الداخلية والإقليمية المتشابكة؟
بالعودة إلى مسار التنفيذ، لا يمكن أن نغفل المخاطر الأمنية والتاريخية المرتبطة بإسرائيل؛ فالقطاع يحمل ذاكرة متراكمة من التوترات والمواجهات السابقة، بما في ذلك الانقلاب والانفلات الأمني الذي يجعل أي خطوة على الأرض محكومة بالحذر واليقظة. هذه الخلفية التاريخية ليست مجرد سياق، بل هي عامل مؤثر مباشرة في تصميم سياسات الانسحاب، إعادة الإعمار، وإدارة القطاع. كل تحرك يجب أن يأخذ في الاعتبار احتمالات التوتر أو الرد الإسرائيلي على أي خطوة غير متوقعة، بما يعزز ضرورة وضع آليات وقائية واضحة وفعالة لضمان عدم التعطيل.
إعادة رسم مستقبل المنطقة
في صميم مرحلة التنفيذ، يبرز سؤال محوري: من سيدير قطاع غزة بعد توقيع اتفاقية السلام؟ هل ستستعيد السلطة الفلسطينية السيطرة الكاملة، أم سيكون هناك تصور لإدارة دولية مؤقتة تضم خبراء وتقنيات دولية للإشراف على إعادة الإعمار وضبط الأمن؟ وما دور حركة حماس في هذا المشهد؟ هل ستظل خارج السلطة كلياً، أم سيكون لها تأثير مباشر ضمن آليات جديدة؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تفاصيل تنظيمية، بل تعكس عمق التعقيدات السياسية والأمنية، وتبرز الحاجة إلى قرار واضح ومحدد حول الهيكل الإداري للقطاع.
قد يكون ما جرى في شرم الشيخ خطوة تُسجَّل في دفاتر الدبلوماسية، لكن ما لم يُحسم بعد هو ما إذا كان هذا الاتفاق بداية لمسار دولة أم محطة عابرة في دورة لا تنتهي من التفاهمات المؤقتة. فالتاريخ في هذه المنطقة لم يعرف سلاماً مستقراً، بل ترتيبات تختبر مع الزمن.
وفي الشرق الأوسط، كل اتفاق يحتاج إلى من يحرسه لا من يحتفل به، والسؤال الأخير: هل يمكن أن تُسجل هذه الاتفاقية كصفحة أولى في محاولة جدية لإعادة رسم مستقبل المنطقة، لا على الورق، بل على أرض تبحث منذ عقود عن استقرار قابل للحياة.