في تاريخ التشكيل السعودي، يقف اسم الدكتور عبدالحليم رضوي كمنارة أولى، أشبه بومضة انطلقت من قلب مكة لتضيء سماء الفن العربي، ثم لتجد صداها في فضاءات العالم الرحبة. وُلد في حي أجياد 1939م، وسط ضيق الحال وثقل اليتم، لكنه حوّل عسره إلى إصرار، وحاجته إلى زادٍ من الخيال، ليكتب أول فصول مسيرة ستظل علامة فارقة في ذاكرة الفنون العربية الحديثة.
لم يكن رضوي فناناً عابراً، بل كان رائداً عصامياً شق طريقه من البساطة إلى العالمية. منذ لوحته الأولى (القربة) التي حصدت المركز الأول على مستوى المملكة، بدا وكأنه يفتح نافذة لزمن جديد، زمن يرفع الفن التشكيلي من الهامش إلى المتن. سافر على نفقته إلى روما، وتخرَّج من كلية الفنون الجميلة عام 1964م، ثم عاد ليتوِّج تجربته بدكتوراه من مدريد عام 1979م حول أثر الفن العربي في الغرب، وكأنه أراد أن يكتب عهداً بأن الهوية ليست عائقاً بل بوابة كبرى إلى الكونية.
في أعماله، كانت الدائرة أكثر من شكل؛ كانت رمزاً للانفتاح والديمومة، وكانت الألوان الصاخبة بريقاً يعكس طاقة الحياة، فيما كان الحرف العربي في لوحاته نغمةً تتقاطع فيها الموسيقى البصرية مع الذاكرة الإسلامية. لم يكن يرسم لمجرد الزينة، بل كان ينسج خطاباً بصرياً يردّ على سؤال الهوية في زمن التحديث. ولهذا وُصفت أعماله بأنها «فن يقرأ التراث بحبر الحداثة».
إنتاجه الغزير -أكثر من 3300 عمل- كان شاهداً على نهمه الإبداعي، لكنه لم يقف عند حدود المرسم، بل خرج إلى الشارع، إلى جدة تحديداً، حيث زرع 33 مجسماً جمالياً جعلت من المدينة متحفاً مفتوحاً. تلك المجسمات لم تكن أحجاراً منحوتة، بل شواهد حضارية تقول إن للفن مكانه في الفضاء العام، وإن الجمال جزء من نسيج الحياة اليومية.
وإلى جانب دوره الإبداعي، أسس رضوي بنية مؤسسية للفن في المملكة: من إدارة مركز الفنون في جدة، إلى قيادة جمعية الثقافة والفنون، إلى نشاطه في المحافل الدولية. كان صوته فاعلاً، وحضوره مؤثراً، وحرصه على أن يكون الفن جسراً بين المملكة والعالم لا يقل عن حرصه على أن يترك أثراً في نفوس طلابه وزملائه.
لم يكن غريباً أن تصل أعماله إلى متاحف كبرى في مدريد وريو دي جانيرو وزيورخ وتونس والرباط، وأن تُعرض في أكثر من 100 معرض دولي. لقد تجاوز رضوي حدود الجغرافيا، ليصير جزءاً من السردية العالمية للفن الحديث، شاهداً على أن الريشة السعودية قادرة على الحضور تحت ضوء المتاحف الكبرى.
في 2006م، وفي السابعة والستين من عمره، خطف الموت قلبه فجأة، لكن إرثه بقي شاهداً: لوحات، مجسمات، مؤلفات، وجوائز تزيّن سيرته. غير أن أعظم ما تركه لم يكن مجرد الأثر المادي، بل ذلك الحلم الذي غرسه في الوعي الجمعي بأن الفن ليس ترفاً، بل هو كتابة أخرى للتاريخ، وصوت آخر للأمة، وذاكرة ملوّنة تحفظ ملامحها للأجيال.