كلما أتاحت لي سانحةٌ الحديث مع الشاعر عبدالعزيز بن علي النصافي، تحضر مقولة «إنما المرء بأصغريه قلبه وذاكرته»؛ لأنّ ضيف هذا الأسبوع ابن بيئة شعريّة، اكتسب المعاني قبل اكتساب اللغة، ونجح بالأدب في كسب ثقة المحيط والمحطات، وبالصدق، والفراسة، امتاز بحساسية التفريق بين الجادّ والهزل، والحقيقي والمُزيّف، والمُحبّ والمناور، وهو هنا برغم جراحاته الأثيرة، آثر أن يبدو متصالحاً وفاتحاً دروب تواصل ومودة، دون تفتيش في أرشيف الأمس، وهذه الروح وراءها الكثير من الوعي، والقراءة، وحسّ الانتماء، فإلى نصّ الحوار:• ماذا يعني انتماء الإنسان لبيئة شاعرة؟•• سأجيب عن هذا السؤال العميق من زاويتي الشخصية:فأنا نشأت في بيت كنت أسمع فيه الشعر أكثر من الكلام، فأبي شاعر، وأخي الأكبر عمار شاعر، وأسرتي كلهم شعراء، لهذا كان الشعر من طفولتي يجري في عروق قلبي كجريان العطر في عروق الوردة..ولفضاءِ القريةِ الرَّحب، وضيائها الصباحيّ، وهدوئها الليليّ، وتنوّعِها البصريّ والجماليّ فضلٌ عليَّ، كفضلِ موسمِ الأمطار ببروقه وضبابه وسحابه على الأشجارِ والأزهار..ولمجلس والدي (رحمه الله) الذي كانت تدور فيه القصائد الأصيلة والحكايات الشعبية، مع فناجين القهوة على إيقاع المطر ورائحة البن والهيل، وعلى ضوء النار في ليالي الشتاء الباردة، وعلى نسمات الأودية والحقول القريبة في ليالي الصيف الماتعة، فضلٌ لا يضاهيه ما تمنحه أرقى الجامعات لمن تتلمذ فيها..ولمدينةِ الرياض «التي ترقُّ ملامحُها في المطر» وتكشف عن مفاتنها الشاعرية في عزّ الشمس لمن أحبّها، أنتمي وأجد روحي كفراشةٍ ربيعيةٍ تطير من حيّ الصحافة إلى حيّ قرطبة..• بمن تأثرتَ على مستوى اللغة والسرد؟•• أميل في كتاباتي إلى النزارية الشاعرية، وإلى الغذّامية النقدية، لغةٌ وسطى تستعير من الفصحى فخامتها ورصانتها وهيبتها، ومن العامية بساطتها وحرارتها وجرأتها.ويبدو أن اختياري لهذه اللغة كان قدراً، بسبب التصادم الجمالي بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح، بين القصيدة التي أكتبها والقصيدة التي أقرأها، بين بدواة ابن القرية وحضارة ابن المدينة. فأنا من مجلس والدي المغمور بالشعر، ومن أجواء القرية المغمورة بالمطر انتقلتُ -بعد تخرجي من الثانوية- من بادية الشلالحة إلى مدينة الرياض، وأنا أحمل ذاكرة شعر وذاكرة مطر. ودرست في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، فحفظت قصيدة طرفة بن العبد التي تصف ناقته، كما حفظت قصيدة عواض اللويحق الهجلة المطيري التي تصف ذلولَه، ومن هذا المزج بين الثقافتين سال قلمي الصحفي.• متى ولجتَ باب الصحافة؟ وعلى يد من؟•• دخلت الصحافة من باب الشعر على يد الدكتور عبدالله الجحلان، رئيس تحرير مجلة اليمامة في تلك المدة.والحكاية أنني كنت في سنتيَّ الأولى والثانية أنشر قصائد شعبية في مجلة «اليمامة» وعُرِفت فيها، وفي ليلة من عام 2007 التقيت بالدكتور الجحلان في مبنى المؤسسة، وعقب دردشة قصيرة، اكتشف أنني قارئ صحف منذ طفولتي، فقال بحسن ظنه: «كل صفات الصحفي الناجح فيك؛ متابعة صحفية، وحسٌّ إبداعي، وتخصص لغة عربية. لماذا لا تعمل معنا؟»، فوافقت قبل أن أفكر.بدأت بالإشراف على صفحتين شعبيتين لمدة عام تقريباً، ولم يكن بها عمل صحفي حقيقي كانت «مكتبية»، وتوقفت لظروف سفر إلى القرية في الإجازة الصيفية، ثم عدت بدعم الثلاثة وتشجيعهم، وهم؛ عبدالله الجحلان (أطال الله في عمره)، وفهد العبدالكريم، وسعود العتيبي (رحمهما الله)، فبدأت رحلتي الميدانية بحوارات وتحقيقات واستطلاعات كما تتطلبه الصحافة.وحين تخرجت في الجامعة كلّفني الدكتور الجحلان بالإشراف على القسم الفني مع مهمات صحفية أخرى، وبعد أن تولّى فهد العبدالكريم (رحمه الله) رئاسة التحرير، كلّفني بالإشراف على القسم الثقافي كاملاً، إلى جانب القسم الفني ومهمة الاستكتاب، ومنحني صلاحيات جعلتني أشعر -وقتها- أنني أنا رئيس التحرير.• صف لنا أجواء الصحافة في المرحلة التي عملتَ فيها؟•• في تلك المرحلة، وبالتحديد عام 2007، كانت جريدة «الرياض» تتجاوز إيراداتها اليومية ثلاثة ملايين ريال، وهو ما انعكس على المؤسسة كلها، فكانت المجلة والجريدة حينئذ خلية نحل. وكان تركي السديري (رحمه الله) كريماً مع أبناء المؤسسة، وأعرف كاتباً كان يتقاضى خمسة آلاف ريال عن المقال الواحد، وأعرف رسّام كاريكاتير كان راتبه يعادل راتب وزير، وهذا دليل على الملاءة المالية وكرم تركي السديري (رحمه الله).كانت مكاتب المجلة الفخمة وفريقها الكبير أشبه بجامعة ثقافية، وكان مكتب سعود العتيبي (رحمه الله) صالوناً يومياً أشبه بصالون العقاد، نجتمع فيه كل مساء على رائحة الورق والقهوة، وتبدأ النقاشات الصحفية والثقافية الثرية عن مواد أبواب المجلة المتنوعة (السياسة، الاقتصاد، الثقافة، الفن، الرياضة…).وللتاريخ؛ شهدت المجلة في عهد فهد العبدالكريم (رحمه الله) أضخم إصدار منذ تأسيسها، تجاوزت رعاياته 2.6 مليون ريال، وهو رقم ضخم لمجلّة غير ربحية. وهذا دليل كبير على تحليق «اليمامة» في هذه المرحلة الصعبة.. فبعد هذا النجاح الذي تحقق كسب فهد العبدالكريم (رحمه الله) ثقة أعضاء مؤسسة اليمامة الصحفية، ووصل إلى كرسي رئاسة تحرير جريدة «الرياض»، وأشرف على المطبوعتين بكل نجاح ومهنية، إلى أن داهمه المرض وأنهكه، وأنهك المؤسسة من بعده، بل أنهك قلوب محبيه أيضاً، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.• يُقال إن هامش الحرية تراجع في عهد الدكتور عبدالله الجحلان، مقارنة بمرحلة الدكتور فهد العرابي الحارثي.. ما تعليقك؟•• لم أعاصر مرحلة الدكتور فهد العرابي الحارثي، التي يُشهد لها بالتميز وارتفاع السقف، لكن مرحلة الدكتور عبدالله الجحلان ظُلِمَت بهذا الانطباع. فقبل أن أعمل في «اليمامة» كانت شواهد ارتفاع السقف واضحة لمن يقرأ، من بينها مقالات الدكتور محمد حمد القنيبط التي حملت أصداء كبيرة، إذ كانت -لقوتها وجرأتها- تصل إلى كبار المسؤولين في الدولة، وكما هو معروف فمن استكتب القنيبط هو الدكتور الجحلان.وفي المرحلة التي عملت فيها كانت المجلة -في نظري- أجرأ من الصحف كلها. يكفي أن ملفاً أسبوعياً بعنوان «نجوم جرجرتهم المحاكم» كان مثار استغراب الكثير من الزملاء الصحفيين في الصحف الأخرى قرابة السنتين، كما أقيمت على المجلة بسببه دعاوى قضائية.. وللأمانة لم أذكر أن الدكتور الجحلان منع حواراً أو مقالة، وحين يتردد كان يستشير سعود العتيبي وفهد العبدالكريم (رحمهما الله) وحادي العنزي، وإسحاق عمر، وعمر أبو راس وبقية الزملاء.• ألا تأكل الصحافة لغة الشاعر والروائي؟•• من الممكن أن يصحّ ذلك، على من يعمل يومياً في قسم المحليات والاقتصاد، وهذه الحكاية أرويها لأول مرة، وهي أنه لما عُرض عليَّ العمل في جريدة «الوطن» في ذروة انتشارها عام 2009، وكان المتاح لي وقتها أن أعمل في القسم المحلي والاقتصادي، وطُلبَت مني تغطيات رسمية وتقارير اقتصادية وأخبار عن (الشرطة، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع المدني، والبلدية…) لكنني حقيقة لم أستطع، وشعرت -خلال شهر- بما شعر به الشاعر العراقي علي جعفر العلاق حين عمل في الحسابات والأرقام والصكوك، فعدّ ذلك من الأعمال المرعبة للشاعر، انسحبت بهدوء وعدت إلى «اليمامة».لكن من وجهة نظري، عمل المبدع في الصحافة الثقافية والأدبية عمل إيجابي، وكما يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع: الكتابة الصحفية في الشأن الأدبي والثقافي تمنع لغة المبدع من الصدأ، وتجعل المبدع في حالة متواصلة من التأهب والجهوزية التعبيرية، وتثري معجمه الشعري بكل ما يلزمه من أسباب الطزاجة والتجدد والاتصال بالحياة.• بماذا خرجت من بلاط «صاحبة الجلالة»؟•• خرجت بأجمل ذكرياتي، وبأجمل صداقاتي. خرجت بمحبة فهد العبدالكريم وسعود العتيبي (رحمهما الله) التي أنهكتني بعد رحيلهما، وخرجت بعينٍ لمّاحة، وقلمٍ متمرّن، ومادةٍ ثقافية ثرية.• بعد تركك الصحافة كانت لك تجربة تلفزيونية مع جابر القرني وهاشم الجحدلي في برنامج «صنوان»..حدثنا عن هذه التجربة.•• هذا صحيح.. قبل أربعة أعوام تلقيت من الإعلامي الخلوق جابر القرني اتصالاً يريد مني التعاون معه ومع الشاعر هاشم الجحدلي في إعداد حلقات برنامج «صنوان» في موسمه الثاني، حقيقة ترددت في البداية، وطلبت منه مهلة قصيرة للتفكير، ولمشاهدة حلقات الموسم الأول الناجح بكل المقاييس، بعد أن أعطاني نبذة قصيرة عن البرنامج وأنه ليس برنامج «مواجهة»، وليس للبحث عن الإثارة و«الترند».. بل برنامج ثقافي توثيقي فيه احتفاء بالأديب وبمنجزاته، وفيه تسليط الضوء على محطات حياته وتوثيقها بشكل يليق بالضيف.. واشترطت السريّة إثر موافقتي إلى أن ينتهي التصوير، وعقب الصدى الرائع للبرنامج، حقيقة أنا من بادر وأعلن أنني شاركت في إدارة التحرير، لأنها تجربة جميلة وأعتز بها، ولست مبالغاً في أن كل ضيف تواصلت معه بعد عرض حلقته قال لي: هذه أجمل حلقة لي.. بمن فيهم الذي لا يعجبه العجب.• من طَرْق باب الرواية في «أغنية قادمة من الغيم»، إلى كتابك الثاني «المبادع عن شعر القلطة»، إلى مقاربات نقدية في «نار الخبز»، هل أنت مغرم بالتجريب؟•• لا.. أنا مؤمن بالتنوع، ومعجب بالصقر الذي يطير من قمّةٍ إلى قمّة، ولا يكتفي بنوع واحد من الطيور.• ما انطباعك عن واقع الثقافة المحلية والعربية؟•• حقيقة نعيش في المملكة، حراكاً ثقافياً ثرياً في الأعوام الأخيرة، وبوصلة الثقافة تتجه إلينا كما كانت تتجه إلى مصر في عصر العمالقة، أما واقع الثقافة في عدد من الدول العربية فقد تراجع لأسباب مختلفة.• ما سرّ علاقتك الوطيدة بالدكتور عبدالله الغذّامي؟•• علاقتي بالدكتورعبدالله الغذّامي كعلاقتي بكل أساتذتنا الكبار؛ مرزوق بن تنباك، وحمزة المزيني، وسعيد السريحي (شفاه الله)، وسعد البازعي، وعثمان الصيني، وصالح زياد، وصالح معيض، ومعجب الزهراني، ومعجب العدواني، وخالد الرفاعي، وعبدالله بن سليم الرشيد، وعبدالرزاق الصاعدي، وسعد الصويان، وغيرهم.. هي علاقة التلميذ بأستاذه والقارئ بكاتبه. وتربيتي تحتّم عليّ النظر إلى رموزنا الثقافية والعلمية نظرة إجلال وإكبار، شأن نظرة نجيب محفوظ، إلى طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، والمازني.وحكايتي مع الغذّامي ومحبتي الكبيرة له كتبتها بتفاصيلها الصغيرة في كتابي «نار الخبز».• ما الذي يميّز الدكتور عبدالله الغذّامي عن غيره؟•• الغذّامي ملأ الدنيا وشغل الناس من المغرب إلى العراق، حتى قالت أكاديمية عراقية: «عشنا في عصر الغذّامي».تخيل..تجاوزت الرسائل الأكاديمية حول مشروعه (النقد الثقافي) 100 رسالة ماجستير ودكتوراه.الغذّامي في النقد مثل نزار قباني في الشعر؛ كلاهما وصل إلى الطبقتين الشعبية والنخبوية، وهذه هي الميزة الكبرى من وجهة نظري.• ألا تخشى ضريبة الانتماء للغذّامية في ظل الاستقطابات الرقمية؟•• سامحك الله يا صديقي.. لستُ بسذاجة من فَهِمَ الثقافة والفن، فَهْمَ المشجع الرياضي المتعصب. فأنا أسمع لمحمد عبده وطلال مداح، وفي مكتبتي كتاب عن ميسي وآخر عن رونالدو، وفي عيني اليمنى قصيدة فصيحة لعبدالله بن سليم الرشيد، وفي اليسرى قصيدة شعبية لعبدالله بن عون العتيبي.• كيف تصف نفسك في مواقع التواصل؟ ماذا عن الوداعة والمسالمة؟•• كل ما أريده من حضوري في «X» هو أن أقدم محتوى ثقافياً لطيفاً يكشف عن شخصيتي الحقيقية ولا يثقل على المتابعين. وشعاري في هذه المنصة قول معجب الزهراني: «لا أريد أن أرجم أحداً بشقّ تمرة، ولا أتحمل أن يرجمني أحمق ولو بوردة».. ليت السلامة.• ما المشروع الذي تطبخه اليوم على نار فكرك الهادئ؟•• لا أظن أن لدي مشروعاً تأليفياً خلال الأعوام الثلاثة القادمة، سأرتاح وأجني صدى كتبي الثلاثة، ومع ذلك أشعر أنني قصّرت بحق الشعر، ولا أخفيك بدأت أجمع قصائدي التي ارتقت إلى الذائقة الرفيعة ومقالاتي التي دارت حول الشعر، وفي نيّتي إصدار كتاب يجمع بين القصيدة والمقالة بعنوان «نحت من مطر» حين أشعر باكتماله، ولن يكون ذلك قبل أعوام.




