حققت مبادرة (ترجِم) إنجازاً نوعيّاً وكميّاً، بنقلها إبداع السعوديين إلى لغات العالم الحيّة، إذ أتمت طباعة ألفي كتاب لمؤلفين سعوديين من مراحل وأطياف وتيارات متنوعة، ويظل عشّاق المنجز شغوفين بتلمُّس أثر أدبنا المُترجم على متلقيه، وهنا نستطلع رأي عدد من المتخصصين، والنقاد، الذين تطلّعوا لإجراء دراسات أو أبحاث، لفحص أساليب ترجمة الأعمال، وطبيعة تلقيها في اللغات الأجنبية، والأثر الذي أحدثته في التعريف بالأدب السعودي عموماً، وبكتّاب الرواية وكاتباتها خصوصاً. المُترجم متعب الشمري: إقبالٌ أثره يحتاج إلى دراسات معمّقة ومطوّلةلا شك أن الترجمة هي أحد جسور التواصل الرئيسية إنْ لم تكن الأولى بين الثقافات والحضارات العالمية؛ كونها تتيح للشعوب النظر في مرايا الآخرين. وتأتي أهمية دورها في نقل الإبداعات الأدبية، مثل الرواية والشعر والمسرح، وتنقل التجارب الإنسانية الأخرى، متجاوزة كل الحدود والحواجز. وفي الأعوام الأخيرة تولّت وزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، نقل الإبداعات السعودية ودعمها وتعزيز الهوية السعودية عبر مبادراتها وبرامجها، ومن ذلك ترجمة الإعمال الأدبية إلى بعض اللغات الرئيسية مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، وإنْ بدرجة أقل خصوصاً في مجال الشعر، وعقدت الوكالات الأدبية السعودية عدداً من الاتفاقيات لنقل تلك الإبداعات إلى لغات أخرى منها الألبانية والصينية والكورية والتركية والأوزبكية وغيرها. وبحسب عدد من الناشرين وأصحاب الوكالات الأدبية فإن الإقبال على قراءة الأعمال السعودية المترجمة إلى لغاتٍ أخرى يزداد يوماً بعد يوم، بل إن بعض دور النشر الأجنبية هي من تبادر بالفعل بالتواصل مع العديد من الدور العربية لعقد بعض الاتفاقات الترجمية.أما تأثير تلك الترجمات في الثقافة الأجنبية وطبيعة استقبال القارئ الأجنبي لها، فأظن أن تلك مسألة أخرى يطول شرحها هنا، فهي تحتاج إلى دراسات معمقة ومطوّلة، فالمعروف عن القارئ الأجنبي، والغربي خصوصاً، أنه قارئ مزاجي وانتقائي ولا يتقبّل الأعمال الأدبية الأخرى بسهولة، خصوصاً البعيدة عنه ثقافياً ولغوياً وقارياً، وإن كان مُغرماً بالاستكشاف، ويتأثر ويؤثر في انتشار العمل الإبداعي (الأجنبي) وخصوصاً إنْ فاز بجائزة أدبية معروفة، وهو ما حدث لبعض الإبداعات السعودية التي نتطلع إلى فوز المزيد منها. الناقد إبراهيم الفريح: الترجمات فتحت الباب لكنها لم تصنع حراكاًرغم ازدياد الترجمات من الرواية السعودية إلى الإنجليزية ولغات أخرى خلال الأعوام الأخيرة، إلا أن تلقِّيها لا يزال -في تقديري- محدوداً وغير متناسب مع حجم التحولات في الحقل الأدبي المحلي. فالحضور الفعلي لهذه الأعمال يظهر غالباً ضمن دوائر معرفية متخصصة؛ أقسام الأدب المقارن، ودراسات الشرق الأوسط، ومقررات تتصل بما بعد الاستعمار والجندر، لا في السوق القرائي العام أو المشهد النقدي العالمي الأوسع.وبناءً على ذلك، فإن طبيعة التلقِّي تتخذ طابعاً أكاديمياً أو بحثياً أكثر من كونها تفاعلاً قرائياً شعبياً أو نقداً أدبياً جماهيرياً، فالعديد من الروايات تُقرأ وتُدرّس وتُحلَّل باعتبارها مدخلاً لفهم الهوية، والتحولات الاجتماعية، وتمثيل المرأة، والمدينة، والنفط، والدِّين.. وليس بالضرورة لأنها حققت حضوراً أدبياً مستقلاً بوصفها سرديات جاذبة بذاتها.ومع ذلك، فإن الحضور المحدود يظل تحولاً لافتاً يستحق الانتباه، فإلى وقت قريب كان المشهد العالمي حين يتناول الأدب العربي يستحضر نماذج محددة غالباً من مصر وبلاد الشام، بينما كانت السعودية شبه غائبة، أو ممثلة بصورة نمطية تختزلها في موضوعات اجتماعية أو سياسية، دون الاعتراف بكونها فضاءً منتجاً لأدب قابل للترجمة والتأويل.وظهور الرواية السعودية المترجمة يفتح نافذة جديدة للدارسين والمهتمين للاطلاع عليها والتعاطي معها. فهو يكشف عن أصوات روائية بدأت تحظى بالاهتمام، وتدخل قوائم الجوائز والمنصات البحثية والنشر العالمي. وربما لا يكون هذا الاهتمام واسعاً بعد، إلا أنه أثرٌ في طور التشكُّل، يبني أرشيفاً معرفياً ويتيح حضوراً لم يكن متاحاً سابقاً.ويمكن القول إن الترجمات فتحت الباب لكنها لم تصنع بعد حركة قرائية واسعة، وإن قدّمت الأدب السعودي إلى الفضاء الدولي، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى تراكم نصوص، ودراسات نقدية، وإستراتيجيات نشر وتسويق ثقافي، حتى يتحول هذا الحضور من اهتمام أكاديمي متخصص إلى حضور قرائي وثقافي مستدام خارج حدود الجامعات ومراكز البحث.الروائي عزيز محمد: عائق الانتشار في وصول الكتاب للقارئ الآخرما زلت أُفاجأ بين حين وحين بمنشورات أو مقالات عن ترجمات روايتي، ولا يجد القارئ الأجنبي صعوبة عموماً في فهم البيئة المحلية والخلفيات النفسية والاجتماعية للشخصيات وغيره، وإنْ وُجدت الصعوبات فربما تشكّل جزءاً من متعة القراءة لكاتب من عالم آخر. لكن في المجمل يبدو لي أن عائق الانتشار الوحيد هو وصول الكتاب للقارئ الآخر. طالما أن دُور النشر الأجنبية التي تهتم بالأدب السعودي قليلة، وقدرتها على التوزيع والتسويق محدودة، فسيبقى تلقي الأدب السعودي محدوداً، وبالتالي سيبقى الأثر الذي تحدثه الترجمات محدوداً. ولا يشي هذا بالضرورة بأي محدودية في جودة الأدب نفسه وإمكانات الأدباء.وسوق النشر مثل غيره يخضع لمعايير استهلاكية، ترسّخ صوراً ثقافية نمطية عن الآخر، وتحُولُ دون أن يُنظر للأدب القادم من بلادنا بمعيار الجودة الفنية وحدها.وربما «تغامر» كبرى دُور النشر العالمية بتجاوز هذا التنميط إذا نجح كاتب سعودي واحد في اختراق المشهد عن طريق جائزة أو غيرها، إلا أنه إلى ذلك الحين، فإن شروط وأدوات الانتشار العالمي ليست في متناول أيدينا، لحسن الحظ أو لسوئه! رئيس جمعية الترجمة: نقيس الأثر.. ونتابع الاقتناء.. ونحلّل التفاعلكشف الرئيس التنفيذي لجمعية الترجمة عبدالرحمن السيّد، عن انضواء الترجمة تحت مظلة فعل ثقافي وطني تكاملي، وأكد لـ«عكاظ» أن الترجمة لا تُقاس بكمّ العناوين التي تصدر كل عام، وإنما بمدى وصولها للمستهدفين والقراء، وإحداثها أثراً حقيقياً في الوعي والمعرفة من خلال العائد المجتمعي، للاستثمار في الترجمة، موضحاً أن عمل الترجمة ليس أحادياً، ولا يكتفي بنقل معاني الكلمات إلى لغة أخرى، بل غدت عنصراً فاعلاً ضمن منظومة أكبر، معنيّة بالكتاب منذ تأليفه إلى أن يصل للقارئ، مؤكداً أن عمليات قياس أثر الأعمال المُترجمة قائم، عبر حضورها في المكتبات، ومعارض الكتب، المحليّة والدولية، إضافةً إلى متابعة اقتنائها في الداخل والخارج عن طريق الناشرين الذين استفادوا من المبادرات الثقافية، والمتخصصين في الترجمة، ونحلل تفاعل القرّاء في المنصات الرقمية، والمشهد البحثي والأكاديمي، لافتاً إلى أن دور جمعية الترجمة لم يعد تقليديّاً، بل معني بصناعة قُرّاء جدد، يسهمون في حوارات الثقافة والأدب، والتواصل العالمي، والتفاعل البحثي مع كافة المؤسسات المعنيّة بالنصوص المُترجمة، ومنها مؤسسات التفاعل البصري (السينما، الدراما، البحوث) ما يصنع تأثيراً طويل المدى، ويسهم في تشكيل ذائقة، مشيراً إلى أن مبادرة (ترجم) أنتجت ألفين كتاباً مُترجماً، وعدّها نموذجاً في تتبع الإصدارات من خلال تقارير. ولم يُخفِ السيّد، أن آلية قياس الأثر الثقافي مُعقّدة، وتأثيرها يظهر على قياس الوعي العام، وحضورها في النقاشات الثقافية العمومية.وأضاف السيّد: لسنا مثاليين، وما زلنا نتتبع ونرصد الأثر للكتب المترجمة، ونوجّه مسارات دخولها للمناهج والمقررات الدراسية، والمشاريع الإبداعية، والعمل بصورة قويّة على التسويق وآليات قياس الأثر. الأكاديمي علي المجنوني: من يختار الأعمال ومن يترجمها لا ينتمون للمقروئية ولا سوق المستقبلللأسف لا يوجد من خلال متابعتي لما كتب باللغة الإنجليزية دراسات كثيرة أو حوارات نقدية حول أعمال سعودية مترجمة، ما عدا رسائل ماجستير أو أوراق بحثية في الجامعات لا تحظى بانتشار واسع، ونادر جداً ما مرّت عليّ مقالات نقدية، قد تكون ثلاث دراسات عن يوسف المحيميد وعبدالرحمن منيف وبدرية البشر، وإنْ كان منيف حالة خاصة.وهذا الغياب يعود لأسباب منها؛ الطريقة أو الآليّة، مع أنّ هناك رغبة لأنْ يُترجم الأدب السعودي إلى لغات أخرى، فمن يختار الأعمال ومن يترجمها لا ينتمون للمقروئية أو سوق المستقبل، وليسوا مترجمين في لغتهم الأصلية، وليست لهم شبكة علاقات مع محررين ودُور نشر كبيرة ومهمة، ما يحدث أنّ الترجمة تتم عن طريق دُور نشر عربية، وهذه الدُور تجتهد لكنها في النهاية ليست خبيرة باحتياج القارئ الأجنبي، والمفروض ألاّ نترجم أنفسنا للآخر، بل المفروض أن يقرأنا الآخر ويكتشف ما يحتاجه ليترجمه، لأنّ ترجمة النفس محاولة غير مضمونة.الترجمة اليوم تتم عن طريق دُور نشر عربية استفادت من مبادرات الترجمة للأعمال السعودية إلى لغات مختلفة، لكنها لا تتابع الانتشار والاستقبال، ومع أنّ هناك تجارب سابقة وجهوداً لمؤسسات دبلوماسية كالسفارات والملحقيات الثقافية، ولكنها تقع في المشكلة نفسها لأنها تختار أعمالاً للترجمة من منظورنا نحن وليس من منظور الآخر.الأجانب لا يترجمون أنفسهم لنا، نحن من نذهب كدُور نشر ومترجمين وقراء بمعرفتنا واطلاعنا لنترجم أعمالاً نعتقد أنها تؤثر في القارئ العربي، وهذا ما يجب أن يحدث في أدبنا؛ أن يكون للآخر دور كبير في الاختيار والترجمة، ما عدا ذلك مغامرة غير محسوبة، نكتفي منها بالترجمة دون ضمان الأثر والقبول. وللخروج من هذا المأزق أرى أن تُعاد صياغة منح الترجمة، وأن تُمنح لدُور نشر أجنبيّة ووكلاء أصحاب اختصاص.




