لم يكن يومًا عاديًا كبقية الأيام، استيقظت وقد اعتراني شعور مروّع، إحساس غريب لا يشبه شيئًا مما خبرته من قبل. كان قد نما لرأسي رأسٌ مستقل! رأيته بأمّ عيني.. نعم، رأيته -رأس رأسي- يستيقظ، يغادر السرير، بينما أنا ورأسي الحقيقي مستلقيان بلا حراك، يعتصرنا ألم لا طاقة لنا به. نهض الرأس، وانفصل عني، كما لو أنني قُسِمتُ نصفين: نصف خرج مني يريد النجاة، ونصف يصرّ على البقاء في هذا الجسد المتخم بأسئلة تبحث عن أجوبة.
حاولتُ أن أستدرجه للعودة إلى جسدي، ظننت أن ذلك قد يوقف هذا الصداع العنيف، لكن الرأس اللعين لم يعرني انتباهًا، بل تابع سيره مبتعدًا دون اكتراث بصوتي الذي اختلط بالدمع واختنق في حلقي.
كانت مشيته واثقة، باردة، قاسية، توحي بأنه بيّت أمرًا ما، وأنه ماضٍ في تنفيذ ما رسمه دون تردد.
خرج ذلك الرأس -رأس رأسي- من غرفة النوم، وأنا أتبعه ببصري، عاجزة عن فعل أي شيء. كان له جسدٌ يشبه جسدي، ومع ذلك، كنت أعرف بقينًا في أعماقي أنه مجرد رأس، بلا جذع، بلا قلب، بلا نبض. لكن لماذا أراه بجسد؟ ولماذا يتحرك ككائنٍ كامل؟
إنه محض رأس.. فما الذي يريده من الجسد؟!
فكّرت أن ألحق به، لكنني كنت متسمّرة، كما لو أنني جُبلت من حجر، طوقتني قوة خفيّة، كبّلت أطرافي، ومضت تسحقني بثقلها، تشلني شللًا تامًا.
صرخت، ألتمس منه أن يفكّ قيدي، لكنه لم يسمعني، أو ربما لم يعد يريد أن يسمع، فبقي صدى صرختي عالقًا في الفراغ.
تملكني شعور مرعب أنني أعيش كابوس يقظة، لكن.. هل أنا يقظة فعلًا؟ أم أنني أحلم؟
كان كل شيء متشابكًا حدّ التيه، صرت أتابع تحركاته في أرجاء البيت من خلال الصوت:
وقع خطواته الرتيبة على الأرض، الباب الذي يُفتح ويُغلق، أصوات ارتطام أشياء، ثم صمت.. ثم ارتطام آخر.
بدا لي أنه ينبش الخزانة، يرمي كتبي، مجلاتي، أوراقي، وكل ما كنت أظنه يومًا دليل نجاتي من جنون هذا العالم.. صرخت بشفاه لم أشعر بها تتحرك:
«ما الذي تنويه؟! ما كل هذه الأصوات؟!»
لكنه، كما في المرات السابقة، تجاهلني.. وكأنه خرج لينتقم من كل ما حمّلته إياه: من الأفكار الثقيلة التي تملأ ليلي، من الأسئلة التي لا تنام، من القصص التي كتبتها عنه، عنه هو تحديدًا، دون إذنه، دون مشورته..
ثم شممتُ رائحة دخان.. لم تكن تلك الرائحة غريبة عني، فمن شهد احتراق نفسه يعرف رائحة الحريق، لكنها اليوم كانت مختلفة.. كانت أكثر قربًا.. أكثر إصرارًا على اجتياحي.
نهضت أخيرًا بعد كفاح مع أطرافي التي تيبست جراء هذا المخاض المؤلم.. بفعل الخوف، أو الجنون.. زحفت كمن يخرج من قبره، جررت نفسي بأظافري، بضعفي، بألم لا يُوصف، حتى وصلت إلى الصالة.
كان الرأس قد كدس كتبي التي بدت مثل تلة دائرية، وأشعلها، ووقف قبالتها ككاهن يؤدي طقسًا من طقوس التضحية قربانًا لآلهة وثنية لا يعبدها سواه.
كانت كتبي أمامي تصرخ، تستنجد بي، تنكمش، تتحول إلى رماد حار.. ركضت كالمجنونة أطفئ النار، أنقذ أوراقي، لكنه نظر إليّ بازدراء لم أرَ مثله من قبل، وقال:
«اتركيها تحترق! لقد عذّبتِنا بها بما يكفي.. لماذا لا تعيشين الحياة ببساطة؟ لماذا لا تتركينا بسلام، أيتها المعتوهة؟!»
طعنتني كلماته كخنجر.. هل هذا صوتي؟ هل هذا الرأس ولد فعلًا من رأسي؟
لم ألتفت.. كنت أبحث عن سطور لم تمسسها النار، عن صفحات لم تحترق، عن كلمات ناجية أعيد بها كتابة قصصي.
فجأة، بدأت الشخصيات تتطاير من بين الصفحات! أبطال روايات، نساء، رجال، أطفال، حيوانات، منازل، أشجار.. كلهم كانوا يركضون، يفرّون، يبكون، يحترقون.. كانوا يهربون مني.. مني أنا! وكأنني أنا من أشعل النار بهم.
كان فيهم من فقد وجهه، من يزحف دون أطراف، من لا يتكلم بل يحدق فقط.
«لماذا خذلتِنا؟!»، صرخ طفل بشعر مجعد يركض على أطرافه الأربعة.
«لقد صدّقناكِ!» قالت امرأة بنصف جسد.
صرختُ:
«لا تتفرقوا! ستموتون إن تفرقتم! أنا لست غريمكم.. انظروا إليّ.. أنا أحترق مثلكم».
اقتربوا، تجمهروا، صاروا حولي دائرة تنز منها روائح دخان بلون الألم وطعمه.. رأيت الأرض تتحول إلى صفحة كبيرة، ونحن نقف على السطور، بينما بقي هو خارج الصفحة.
قلت لهم وأنا أشير إلى الرأس:
«هذا هو.. هذا من أراد إحراقنا جميعًا، هو من خاننا، من أشعل الحريق في ذاكرتي، في رؤوسكم، في أرواحنا».
التقت عيناي بعينيه.. كان خائفًا، ومع ذلك، كان يمطرني بنظرات كراهية تنوء بها الجبال.
أحطنا به، طوقناه، حتى لم يبقَ له منا مهرب، ابتسم ابتسامة متهكمة، ومد يده إلى طرف الصفحة التي نقف عليها، ومزقها، تراجع المشهد من حولي فجأة، كأن كل ما في الغرفة انكمش، بدأت الأشياء تخبو وتختفي من تلقاء نفسها، ووجدت نفسي أُسحب خارج السطور عنوة، بينما كانت كلماتي تتساقط على الأرض، وتتلاشى.
رأيته يخرج من بين الجدران إلى فضاء أوسع، يحمل على كتفه حقيبة جمع فيها ما استطاع من أبطالي، وكلماتي، وصوتي، ويمضي بعيدًا.
أما أنا.. فقد بقيت معلقة على هامش النص.. جملة مبتورة لا محل لها من الإعراب.
كتابُكَ والمسافة…
عبير حسن علّام – لبنان
… لم يقطع بَعدُ سَفَري ثلثَ الوقتِ، نصفَ الليل، رُبعَ أثقال المسافة.. وجُزتُ انتصافَ كتابِك السحرِ/ الحبرِ، فانتفضتُ دهشةَ طفلٍ مسَّهُ الليلُ فخافَ.
أنا لم أحاذر حرفك، لم أفارق وجهك، لمْ… فلِمَ يعجنني بحرُكَ السّرﱢيُّ جُزافا؟!
أنا كلَّما ابتعدتُ عنك، وقلتُ: لن… عاد يعدو بي الحنينُ أسْرًا واختطافا.
أنا كنتُ قلتُ محارتي وغرابتي وغوايتي وروايتي وقصيدتي التي فيكَ لم… فعدتُ صِفرًا أُسقِطُ العمرَ ارتجافا.
أنا كنتُ كم كنتُ أباهي.. كم راوغتُ وكم هربتُ؛ كي لا أعلوَ في السقوط الشاهق بين حرفك وتيه وجهك.. حتى سقطتُ طَوعًا أرتشفُ المعنى ارتشافا.
أنا إن أضفتُ أو حذفتُ وإن وقفتُ هنا انكشفْتُ.. وكم تلوَّعتُ أمام عينيكَ انكشافا!
تعِبَ السَّفرُ ونامت كلُّ شاشات الوصول.. وأنا الشريدةُ في أصقاعكَ أُراوِحُ.. لا استرجاعًا أقدِرُ ولا استشرافا…
أنا كلَّما ناءت/ نامت بي الدموع فوق قلبٍ أتعبتْهُ المسافاتُ تَعبَثُ بالرهافة، رحتُ أمنّي الروحَ أن قاربَ الوجعُ انتصافا.
أنا كلَّما غرَّدَ بي (التيَّانُ) بين الجُردِ وصمغِ السروِ صار لي النهرُ لِحافا.
أنا كنتُ كم.. وكنتُ لم.. وكنتُ بدءَ الحديثِ بيننا أنثى من غيابات المسافة.
وكنتُ قبلَكَ صهوةَ ليلٍ، صبوةَ خيلٍ.. أعربُ الموتَ مُضافا.
وكنتُ صخرًا، كنتُ ضوءًا.. أخبزُ الحرفَ احترافا…
واليومَ صرتُ ما بِيدي أهجّئُ السُّكَّرَ سُكْرًا، أهجّئُ الشُّكْرَ سُكرًا، والسُّكْرُ أنطقُهُ سُكرًا كي أتعافى.
سباني نصُّكَ شقوةً حدَّ الخُرافة. وأملاني.. علَّمَ ترحالي كيف نُصيّرُ الريحَ رُعافا.
فكان أن صادني الشوقُ اعترافا وفاضَ بي البَينُ وطافَ. وكم سيبقى قلبي قتيلًا بك، كم سيبقى قتيلًا بكَ تشافى!
أنا يا حبيبُ ويا صديقُ ويا شقيقَ الروحِ من سنيﱢ اللثغةِ الأولى، أنا قد كنتُ ثمَّ متُّ ثمَّ عشتُ لألتحفَ حرفَكَ النهرَ (برنسَ) الطفلِ الجنينِ حِرزًا من الأقدارِ والأقمارِ، من حبﱟ يسملُ عينًا لم ترَكَ فما صلَّت ويُرمّدُ عيونًا رأتكَ فصارت تِربَ الليل، حرقةَ هَيل، أمَةً.. وسلطانُ النومِ تجافى.
وعادَ نصُّكَ كم خشيتُه وعادَ حرفُكَ كم نسيتُه، عاد كلُّكَ يفتحُ كُلّي بحرًا ونهرًا وشمسًا وظِلًّا وكوَّةً إلى السماوات/ المعنى البهيﱢ يُقلقُ الكونَ اكتشافا..