لم يكن تحوّل الأندية الأدبيّة إلى جمعيات تتبع المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، مفاجئاً؛ نظراً للمطلب السابق الذي وجهته وزارة الثقافة لرؤساء مجالس الأندية الأدبية بضرورة التسجيل في المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، لكنّ المفاجأة الكبرى لبعض الأدباء والمثقفين والمهتمين بالمشهد الثقافي في السعودية تمثلت في عودة مجالس الإدارات السابقة في العديد من الأندية الأدبية للعمل في مجالس الجمعيات الأدبية الجيدة!
فهل ستشكّل هذه المجالس الانطلاقة نحو مزيد من الحراك الأدبي، أم أنّ التحوّل مجرد تغيير شكلي للاسم والهيكل الإداري؟
وهل تُفسح الجمعيات الأدبية المجال لمرحلة جديدة تُدار بروح العمل المؤسسي التطوعي، وتُفتح أبوابها لأسماء جديدة وأفكار مختلفة، أم أنّ الأعضاء السابقين سيكون لهم النصيب الأكبر من هذا الحضور والتمثيل؟!
الأندية الأدبية تاريخ مشرّف
خروج الأندية الأدبية من المشهد الثقافي بعد نصف قرن لا يمكن أن يُنسى، ولا يغمط حقّه؛ لأنها كانت ركيزة أساسيّة في دعم الحراك الأدبي، وإثراء المشهد الثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية، والمحافظة على استمرارية الأدب والفكر، والإسهام في بناء مجتمع معرفي يعتز بثقافته وحضارته وتراثه العريق، إذ لعبت الأندية الأدبية في المملكة الدور الأكبر في إبراز المواهب والتعريف بالأدباء والمثقفين ونشر الكتب.
بدأت انطلاقة الأندية الأدبية في المملكة العربية السعودية بقصّة، إثر انعقاد مؤتمر الأدباء السعوديين الأول؛ الذي أقيم في الرياض ورأسه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام لرعاية الشباب -رحمه الله- في شهر جمادى الأولى 1395هـ الموافق مايو 1975م مع عدد من الأدباء والمثقفين من مناطق المملكة، وكان النقاش يدور حول سبل إحياء سوق عكاظ، وبعد تداول هذه الفكرة اقترح الأديب عزيز ضياء -رحمه الله- فكرة إنشاء أندية أدبية في المدن السعودية الكبيرة، وأيدها الحاضرون أثناء التباحث في شأن صيغة مؤسسية لتفعيل الثقافة ورعايتها، وصدرت الموافقة على تأسيس ستة أندية في جدة والرياض والطائف ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجازان، وأضيفت لها عشرة أندية في سنوات لاحقة ليصل عددها إلى ستة عشر نادياً أدبياً وثقافياً في مختلف مناطق المملكة.
التحوّل والمواءمة
منذ صدور قرار مجلس الوزراء بنقل المهام والنشاطات المتعلقة بالثقافة من وزارة الإعلام إلى وزارة الثقافة، وضمن هذا الإطار، نُقلت إدارة «الجمعيات والأندية الأدبية» إلى وزارة الثقافة، وفي مطلع عام 2023م أوقفت الوزارة الدعم المادي عن الأندية الأدبية، وطلبت من رؤسائها التسجيل في منصة «المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي».
سارعت بعض الأندية إلى التحوّل عن طريق التسجيل في المنصة الوطنية للقطاع غير الربحي، وكان نادي الأحساء الأدبي أوّل جمعية أدبية تسجّل يعتمد مجلس إداراتها لأربع سنوات قادمة ومن ثم تبعتها أندية أدبية أخرى، فيما امتنعت أندية أخرى عن التسجيل فكان قرار وزارة الموارد البشرية عزل المجالس وتعيين مجالس مؤقته لمواءمة هذه الأندية وفق خطوات الوزارة المقترحة، إضافة إلى حلّ وتصفية أندية أدبية أخرى!
أندية أدبية تعاني
الشاعر محمد الفوز أكد أنّ الأندية الأدبية في الفترة الأخيرة عانت من حالة عزوف تام بسبب عدم مواكبتها للتطور واعتمادها على منجزات سابقة وأسماء مكرورة. وأضاف: لا غرابة لأن المشكلة من الداخل، فإدارات الأندية ككل علاقتها مع الأدباء شحيحة، ربما لم يدركوا قيمة الزمن لذلك ابتعد الجميع عنهم، والمهم ألا تترك وزارة الثقافة هؤلاء يعبثون بتاريخ الزمن الجميل للأندية.
الفوز ذكر أنّ أكبر خطأ في هذا التحوّل هو عودة المجالس القديمة؛ لأنها لو كانت قادرة على التغيير لما انتظرت قوانين وهيكلة جديدة تنخرط فيها رغماً عنها، وطالب بلائحة تنظيمية تخدم المثقف على رأسها تحديد مدة عمل اللجان، وعدم استمرارها لأكثر من دورتين، وتطبيق معايير الحوكمة والجودة وكافة مؤشرات قياس الأداء، وتحقيق رضا المستفيدين من الأدباء. واقترح الفوز أن يكون هناك خط ساخن مع الوزارة؛ لضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة. وأشار إلى أهميّة تغيير نمط العمل في الأندية، وتحويل مقراتها إلى مؤسسات مدنية تخدم كل فئات المجتمع. وتمنى الفوز من وزارة الثقافة بألّا تتخلى عن الأندية بعد التحول، بل فرصتها أن تعيد هيكلتها بما يُحقق رؤية الوزارة وجعلها ملاذاً آمناً لثقافة حديثة وأدب غير مؤدلج وفضاء تلتقي فيه كل الأجنحة.
متفائل بقرار التحوّل
الروائي علي رافع المفضلي أبدى تفاؤله الشخصي بقرار التحوّل الذي أصدرته وزارة الثقافة، القاضي بتحويل الأندية الأدبية إلى جمعيات ثقافية تتبع القطاع غير الربحي، وأشار إلى أنّ من أبرز أهداف هذا التحول: تعزيز الحوكمة والشفافية، تجديد الدماء، وتمكين التعدد الثقافي، مع الحد من تكريس الأسماء الثقافية ذاتها في المشهد. وأكد المفضلي أنّ هذا يعني وجود جمعيات عمومية، مجالس إدارة منتخبة، رؤساء تنفيذيين، مراجعة داخلية وخارجية، وقوائم مالية معلنة، مما يُفترض أن يفتح الباب أمام تنافس نزيه ومثمر بين الجمعيات، ويحفّز تأسيس جمعيات ثقافية متخصصة تخدم مختلف المجالات.
وطالب المفضلي بأن تتضمن اللائحة التنظيمية ما يُشبه لائحة الشركات من حيث عدد مرات الترشح، وتحديد عدد دورات الترشّح المتتالية، بما يضمن التدوير المؤسسي ويفسح المجال أمام طاقات جديدة، وتمنّى أن تُفرز هذه الجمعيات أفكاراً خلاقة، كإنشاء صوالين ثقافية مؤسسية، وإطلاق أوقاف ثقافية مستدامة، وتأسيس دور نشر متخصصة، إضافة إلى الدعم المباشر للنقاد والباحثين والمبدعين من مختلف الأجيال.
اغتيال الأمل
الشاعر والأكاديمي أحمد قران الزهراني رأى أنّ في عودة المجالس القديمة اغتيالاً للأمل في التغيير؛ لأنها تعيد إنتاج نفس الوجوه، ونفس التصورات، وأكد أنّ العودة ستكون مُفيدةً لو كانت انتقاليةً، تُمهِّد للتغير، لكن غياب ضمانات عدم تكرار الفترة الطويلة الماضية بكل ما فيها من خيبات يجعلها خطوةً إلى الوراء. وأضاف: لا يلام أعضاء مجالس الأندية القدماء في استمراريتهم لأن المثقفين غائبون، ولأن وزارة الثقافة تمارس تجاهل تاريخ وعراقة ومكانة الأندية الأدبية وإلا كان عليها أن تعيد تشكيل مجالس إداراتها بوجوه جديدة مطعمة بوجوه قديمة تستطيع أن تقدم أفكاراً ورؤى مختلفة.
ولفت الزهراني النظر إلى أنّ الأندية الأدبية لم تعد تلك الفضاءات المتوهجة التي تُلهِمُ وتُقدم وتعطي، بل تحوَّل كثيرٌ منها -في السنوات الأخيرة- إلى كيانات تتنفَّس بصعوبة، وبعضها في عِداد الموتى وقليل منها تتحرك بثقل وبطء وتقاوم الانهيار، واستشهد على ذلك بالفعاليات النادرة والمتفرقة، مع أنّ هناك محاولات للاستفادة من التحول الرقمي، لكن الظلَّ الأكبر يُلقيه الجمود الذي يلفُّها كضباب: عمل ثقافي روتيني، وفعالياتٌ تفتقد الرؤية مما دفع المثقفين أن يحجموا عن حضور فعالياتها!
وتساءل الزهراني: هل يُعقل أن تظل القياداتُ تدور في فلك الأشخاص أنفسهم منذ أكثر من أربعة عشر عاماً؟ والاعتراض ليس على ذوات الأشخاص، فهم من ذوي الثقافة والكفاءة ولكن الأمر يتعلق بتغيير الوجوه لتتغير الاستراتيجيات.
ورأى الزهراني أنّ هناك خطأ كبيراً ترتكبه وزارة الثقافة لأنها تركت الأندية الأدبية تواجه مصيرها بنفسها، ولو فكر المسؤولون في وزارة الثقافة لوجدوا أن الأندية الأدبية تخدم مشاريعهم وخططهم وستزيد من حضور الوزارة كثيراً من خلال فعاليات الأندية، كنت أتمنى كغيري أن تتحوّل الأندية الأدبية إلى مراكز ثقافية تحت مسؤولية وزارة الثقافة، لكن ذلك لم يحدث، وقد يأتي يوم تندم فيه وزارة الثقافة على هذا التفريط في الأندية الأدبية!
التحوّل منظومة لا ترتبط بالأشخاص
الناقد والشاعر محمد الحرز أوضح أنّ تحويل الأندية الأدبية إلى جمعيات تحت القطاع غير الربحي، يعني أن سياسة الدولة فيما يخص العمل الثقافي ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية تدخل ضمن استراتيجيتها في رؤية الإنسان السعودي كطاقة مبدعة تساهم في القوة الناعمة التي تمتلكها الثقافة، وتوسيع النظر إلى الثقافة باعتبارها الهوية الوطنية الجامعة لكل ما يتعلق بالإنسان السعودي في جميع مجالات الحياة: من عادات وتقاليد، سواء ما تعلق منها بالموسيقى والأزياء والفنون البصرية والمسرحية وتقاليد الأكل والموروث المكتوب والشفهي وشتى صنوف الإبداع.
وأكد الحرز أنّ هذا التوجه لم يكن مطروقاً ما قبل الرؤية في نظرتها للعمل الثقافي المرتبط بالأندية، وأنّ هذا التحول يعيد هيكلة المؤسسات بما يتوافق وهذه الاستراتيجية للثقافة التي تواكب التحولات المعرفية والثقافية التي يشهدها العالم. وأضاف: إذا كان المثقف عندنا لا يضع نصب عينيه هذه النظرة للثقافة في علاقتها بالتحول في المؤسسات، فأظن أنّه سيبقى يدور في إطار النظرة التقليدية التي تمرّس عليها سابقاً، وبالتالي لن ينتج شيئاً ذا فاعلية ينسجم مع هذه الرؤية. ثم الأمر لا يتعلق بكون الأعضاء السابقين في الأندية هم أنفسهم الذين شكلوا مجلس إدارة الجمعيات. لكنه يتعلق بالعمل الثقافي انطلاقاً من هذه الرؤية في التحول الثقافي. لذلك هي منظومة واستراتيجيات لا ترتبط بالشخوص بقدر ارتباطها بآليات تخضع بالدرجة الأولى إلى اقتناع المثقف أو المبدع وفهمه بالدور الذي يقع عليه والمسؤولية المناطة به في تحريك عجلة التنمية الثقافية في لحظتها الراهنة، هذا هو المعيار بالنسبة لي بغض النظر عن الأسماء سواء احتفظوا بمقاعدهم في الجمعيات أم تركوها. وأشار الحرز إلى أنّ ضخ دماء جديدة في الجمعيات من فئة الشباب مطلب دون الاستغناء بالطبع عن خبرة الذين تمرّسوا في العمل الثقافي سنوات طويلة.