
في عصر تسود فيه التكنولوجيا وتتسارع وتيرة التحول الرقمي، يبرز الأردن كقصة نجاح ملهمة في مجال محو الأمية، حيث يشارك العالم غدا الاثنين، الاحتفال باليوم العالمي لمحو الأمية تحت شعار “تعزيز محو الأمية في العصر الرقمي”.
فمن نسبة كانت تبلغ 88 بالمئة في الماضي إلى أقل من 5 بالمئة في يومنا هذا، تحول الأردن من تحد كبير إلى نموذج يحتذى به في تعزيز القراءة والكتابة كأدوات أساسية لبناء المستقبل.
ولم يكن هذا الإنجاز وليد الصدفة بل نتاج جهود متواصلة بدأت منذ صدور الدستور الأردني المعدل عام 1952، حين أطلق المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال_طيب الله ثراه، رؤية طموحة لفتح مراكز تعليم الكبار في الوحدات العسكرية، والتي غدت اليوم منتشرة في كل قرية ومدينة، تقدم التعليم للأميين من سن 15 عاما فما فوق.
وفي عام 1953، افتتحت وزارة التربية والتعليم صفوفا ليلية لمحو الأمية وتعليم الكبار، وفي عام 1955 ورد في قانون المعارف في المادة الثالثة والعشرين منه نصت صراحة على: “تسعى وزارة المعارف العمومية إلى فتح مدارس شعبية غايتها تثقيف الكبار ممن لم تتح لهم فرصة التعلم أو لم يتمكنوا من مواصلة التعلم في المدارس الابتدائية، ولأجل هذه الغاية تسمح الوزارة باستعمال أبنية المدارس الحكومية في أوقات فراغها لهذا الغرض”.
وأنيطت مهمة الإشراف على برامج محو الأمية في عام 1965 بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ثم أعادت الدولة في عام 1968 حق الإشراف على برامج محو الأمية لوزارة التربية والتعليم، حيث وضع نظام جديد لتعليم الكبار ومحو الأمية نظام رقم 43 لسنة 1971.
وكان قانون التربية والتعليم رقم 16 لسنة 1964 قد أكد في الفقرة (3) من المادة (5) على إنشاء مراكز لتعليم الكبار ولنشر الثقافة العامة في مختلف أنحاء البلاد”، ثم صدر نظام تعليم الكبار رقم (24) عام 1980، الذي أجاز استخدام الأبنية المدرسية، وتكليف المعلمين بالتدريس، وحدد مدة الدراسة في المراكز بـ (16) شهرا للمستوى الذي يعادل الصف الرابع الأساسي، و (16) شهرا لمرحلة المتابعين، ونص كذلك على أن يكون التدريس في المراكز لـ 5 أيام في الأسبوع، بمعدل ساعتين في اليوم الواحد، إلى أن صدر نظام برنامج تعليم الكبار ومحو الأمية رقم (81) لسنة 2005م الذي كان من أبرز بنوده الرئيسة رفع مكافآت العاملين بالمراكز، إضافة إلى تعليمات مراكز تعليم الكبار ومحو الأمية رقم (2) لعام 2006.
كما سنت التشريعات التي تفرض إلزامية التعليم ومجانيته لمدة ست سنوات في سنة 1952م، ثم أصبحت المدة الإلزامية سنة 1964م تسع سنوات، وبعد المؤتمر الوطني الأول للتطوير التربوي الذي عقد في عمان سنة 1987م، تم اعتماد بنية التعليم الجديدة منذ العام 1990/1989م؛ حيث أصبحت إلزامية التعليم عشر سنوات.
واستمرت هذه المسيرة تحت قيادة جلالة الملك عبدالله الثاني الذي جعل من التعليم أولوية وطنية، ويدعو جلالته باستمرار إلى ضرورة معالجة مشكلة الأمية؛ لما تفرزه من انعكاسات سلبية على الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، ولما تسببه أيضا من عقبات أمام برامج التنمية المستدامة، ففقد حثت التوجيهات الملكية السامية دوما على علاج هذه المشكلة بخطة مدروسة مبرمجة تمثلت بإغلاق الرافد الذي يغذي الأمية، وهم الطلبة الذين يتسربون من المدارس قبل امتلاكهم المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، وبهذا يكون الأردن قدوة وانموذجا للعالم في تحويل التحديات إلى فرص.
وفي هذا اليوم الدولي، كشفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عن أن 739 مليونا من البالغين الذين تبلغ أعمارهم 15 عاما يفتقرون لمهارات القراءة والكتابة الأساسية ثلثاهم من النساء وفقا للمعهد الدولي للإحصاء 2025، ويفشل 251 مليون طفل حول العالم في اكتساب مهارات القراءة والكتابة الأساسية.
وبينت “اليونسكو” أنه بالرغم من أن محو الأمية يعد أساسا للمهارات الرقمية والتحول الرقمي الشامل، كما يعد محو الأمية جزءا من ظاهرة الرقمنة التي أعادت تعريف معنى أن تكون متعلما في عالم، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن من القراءة والكتابة، إلى جانب كيفية تصميم برامج وسياسات تعليم وتعلم محو الأمية وإدارتها ومراقبتها.
ووفقا لصفحة الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) الإلكترونية حول الإحصاءات (2025)، ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت من مليار مستخدم عام 2005 إلى 5.5 مليار مستخدم عام 2024.
وتشير المؤشرات الصادرة عن تقرير هيئة تنظيم قطاع الاتصالات الإحصائي للربع الأول من العام 2025 لقطاع الاتصالات إلى ارتفاع عدد اشتراكات الاتصالات المتنقلة لتصل إلى 8.03 مليون اشتراك مقارنة بـ 7.79 مليون اشتراك للربع الأول من العام 2024 أي بنسبة نمو 3 %، وارتفاع عدد اشتراكات الإنترنت لتصل إلى (818.5) ألف اشتراك مقارنة بـ (799) ألف اشتراك للربع الأول من العام 2024، وبنسبة نمو بلغت (2.5 %).
وأكد الناطق الإعلامي في وزارة التربية والتعليم محمود الحياصات، أن نسبة الأمية بين الأردنيين لعام 2024 وصلت إلى أقل من 5 %، وفقا لإحصاءات دائرة الإحصاءات العامة.
وأوضح الحياصات أن البرنامج التعليمي موجه للأفراد الذين تبلغ أعمارهم 15 عاما فأكثر، سواء أكانوا ذكورا أو إناثا، حيث يمكنهم الالتحاق بالمراكز التعليمية والاستفادة من الخدمات المقدمة فيها، إذ بلغ عدد المراكز التعليمية للعام 2024/2025 نحو 174 مركزا، التحق بها 2060 دارسا ودارسة.
وأشار إلى أن الوزارة تعمل من خلال إدارة التعليم على إعداد خطط استراتيجية لتوفير فرص تعليمية تلبي احتياجات مختلف شرائح المجتمع، مع التركيز على برنامج محو أمية الكبار، وتشمل هذه الجهود التعاون مع مديريات التربية والتعليم لتحديد الاحتياجات وفتح مراكز تعليمية في المناطق التي يتوفر فيها 10 دارسين أو أكثر.
وأضاف، إن الوزارة توفر القرطاسية والسجلات الخاصة بالبرنامج للملتحقين مجانا، كما تتكفل بدفع أجور المعلمين العاملين في هذه المراكز.
وفيما يخص المواد التعليمية، بين الحياصات أن الوزارة أعدت منهاجا خاصا بالبرنامج يخدم الدارسين من الصف الأول إلى الصف السادس الأساسي، بالإضافة إلى توفير بطاقات تعليمية يستخدمها المعلمون داخل المراكز.
وعن استخدام التكنولوجيا في التعليم، أشار إلى أن دراسة مادة الحاسوب تتم وفقا لرغبة الدارس، مع التأكيد على أن الدراسة تتم بشكل حضوري في المراكز فقط.
وأكد الحياصات أن الوزارة تقوم سنويا بتدريب وتأهيل المعلمين الجدد العاملين في هذه المراكز، وتعزيز مهاراتهم في التعامل مع الكبار وتطبيق استراتيجيات التدريس الحديثة.
وأشار الى أن هذه الجهود تأتي في إطار استراتيجية الوزارة لتعزيز التعليم المستمر ومحو الأمية، بما يسهم في تنمية المجتمع وتمكين الأفراد من تحقيق طموحاتهم التعليمية والمهنية.
وقد عملت وزارة التربية والتعليم في مجال محو الأمية وفق أسلوبين، الأول الأسلوب الوقائي والذي يتمثل في توفير التعليم الأساسي المجاني والإلزامي لجميع أفراد المجتمع الذين هم في سن التعليم المدرسي، وقد بدأت وزارة التربية والتعليم العمل على إلزامية التعليم لمدة ست سنوات منذ سنة 1952، وفي عام 1964 صدر قانون التربية والتعليم الذي عمل على تمديد إلزامية التعليم ومجانيته لتسع سنوات، وفي عام 1987م، بعد مؤتمر التطوير التربوي الأول عام، مددت إلزامية التعليم لعشر سنوات لتشمل مرحلة التعليم المجاني الإلزامي لجميع الفئات العمرية من سن السادسة حتى السادسة عشرة، وبذلك يكون النظام التربوي الأردني عمل على إغلاق الرافد الذي يغذي حجم الأمية، وعمل على خفضها تدريجيا مع فتح القنوات بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي.
وتضمن الأسلوب الثاني وهو العلاجي برنامجا يقسم من المستوى التعليمي إلى مرحلتين: الأولى تسمى مرحلة المبتدئين، ومدة الدراسة فيها 16 شهرا أو عامين دراسيين يمنح المتخرج بعدها شهادة دراسية تعادل شهادة الصف الرابع الأساسي، والمرحلة الثانية تسمى مرحلة المتابعين، ومدة الدراسة فيها 16 شهرا أو عامين دراسيين، يمنح المتخرج في نهايتها شهادة تعادل شهادة الصف السادس الأساسي.
وأكدت الخبيرة التربوية الدكتورة يسرى العلي العموش، أستاذة الإدارة التربوية في جامعة البلقاء التطبيقية، أن محو الأمية الرقمية لا يقتصر على القدرة على استخدام الكمبيوتر أو الهاتف الذكي فحسب، بل يشمل مجموعة من المهارات والمعارف التي تمكن الأفراد من الوصول إلى المعلومات، وتقييم مصداقيتها بشكل نقدي، وإنشاء المحتوى الرقمي ومشاركته، بالإضافة إلى التواصل والتعاون بفعالية عبر المنصات الرقمية.
وأضافت الدكتورة العموش أن محو الأمية الرقمية يلعب دورا محوريا في التمكين الاقتصادي، حيث يفتح أبوابا جديدة للعمل عن بعد وريادة الأعمال، ويزيد من فرص التوظيف في سوق العمل الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على المهارات الرقمية.
كما يسهم في تحقيق الشمول المجتمعي من خلال تقليل الفجوة الرقمية بين الأجيال والفئات الاجتماعية المختلفة، ما يضمن عدم تخلف أي فرد عن ركب التحول الرقمي، وفقا للعموش.
وأشارت العموش إلى أن محو الأمية الرقمية يوفر إمكانية الوصول إلى مصادر تعليمية لا حدود لها، سواء عبر المنصات التعليمية أو الدورات التدريبية عبر الإنترنت، ما يعزز أساليب التعليم الذاتي ويسهم في تطوير المهارات المعرفية، لافتة الى أهمية محو الأمية الرقمية في تعزيز المواطنة الفعالة، حيث يمكن الأفراد من التفاعل مع الحكومة الإلكترونية والمشاركة في الحياة المجتمعية والمناقشات العامة بشكل أكثر فعالية.
وأضافت العموش، إن تبني التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة يدعم الابتكار والتنمية المستدامة، ما يخلق مجتمعا قادرا على مواكبة التطورات الرقمية المتسارعة.، مؤكدة أن هذا الملف يحظى بأولوية وطنية، حيث ينظر إليه كركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويعمل الأردن على تحقيق ذلك من خلال مزيج من الاستراتيجيات الوطنية الطموحة، وإصلاح النظام التعليمي، وتقديم الخدمات الحكومية الإلكترونية، بهدف بناء مجتمع رقمي شامل ومتمكن.
المستشار التربوي فيصل التايه قال، رغم التقدم الكبير الذي أحرزته المجتمعات الإنسانية في العقود الأخيرة، إلا أن الأمية ما تزال تمثل تحديا عالميا كبيرا، حيث يفتقد ملايين الأشخاص حول العالم المهارات الأساسية في القراءة والكتابة، مشيرا الى أن هذا الحرمان لا يقتصر أثره على الأفراد فقط، بل يمتد ليعيق المجتمعات بأسرها عبر إبطاء النمو الاقتصادي، وزيادة الفقر، وتعزيز التمييز الاجتماعي.
وأضاف، في الأردن، تشير بيانات دائرة الإحصاءات العامة إلى أن معدل الأمية انخفض إلى نحو 5 % عام 2023 بعد أن كان 11 % في عام 2000، وهو إنجاز وطني بارز، لافتا إلى دور وزارة التربية والتعليم التي تواصل جهودها لمحو الأمية من خلال فتح مراكز تعليمية في مختلف محافظات المملكة، والتي تقدم برامج تعليمية مجانية تستهدف الفئات التي لم تتح لها فرصة الالتحاق بالمدارس، إلى جانب برامج جديدة تركز على محو الأمية الرقمية لمواكبة متطلبات العصر، ذلك أن الوزارة تعتبر محو الأمية قضية وطنية بامتياز، حيث غدت برامج محو الأمية مفتوحة أمام جميع الفئات العمرية، ونولي اهتماما خاصا بالنساء في المناطق الريفية، حيث تظهر نسب الأمية بشكل أكبر.
يشار إلى أن الاحتفالات السنوية باليوم الدولي لمحو الأمية أقيمت في 8 أيلول منذ عام 1967، ويكمن الهدف من هذا اليوم في تذكير واضعي السياسات والأخصائيين وعموم الجمهور بأهمية محو الأمية لإنشاء مجتمعات أكثر استدامة وعدلا وسلاما وإلماما بمهارات القراءة والكتابة.
–(بترا)
مصدر الخبر: من 88 % إلى أقل من 5 %.. الأردن يكتب فصلا جديدا في محو الأمية .