يمثّل مشروع الناقد السعودي سعيد السريحي (نقد الخطاب الثقافي) انتقالة نوعية في المشهد النقدي السعودي والعربي. بدءاً من ملاحظة التحوّل الذي شهده خطاب السريحي، من النقد الأدبي التقليدي الذي اشتغل عليه مبكراً، إلى تحليل الخطابات الثقافية، متأثراً بالمناهج الحديثة، خصوصاً المنهج الأركيولوجي عند (ميشيل فوكو)، والمقاربات التأويلية والهرمنيوطيقية لدى (هايدغر) و(غادامر) و(ريكو).ومشروع السريحي، لم يكن مجرد دراسة موضوعات ثقافية سطحية، بل كان سعياً منهجياً لكشف المضمرات التي تختبئ خلف الخطابات اليومية والتاريخية والاجتماعية في الثقافة العربية، ومحاولة قراءة جذور هذه الظواهر، وطرق تحوّلها عبر الزمن، والسلطات التي أسهمت في تشكيلها، أو قمعها، إذ يُعدّ أحد أبرز النقاد الذين نقلوا النقد من دائرة النص الأدبي إلى فضاء الثقافة الواسع، واهتم بقراءة ظواهر مثل الكرم، القهوة، الجنون، الصحراء، الهوى، السلطة، العادات وغيرها، من زاوية تحليلية تقرأ الخطاب وليس الحدث فقط.قدّم قراءة منهجية موسّعة لمشروع نقدي لم يحظَ باهتمام أكاديمي كافٍ، وكشف عن علاقة النقد الثقافي بالخلفيات الفلسفية واللغوية التي اعتمد عليها السريحي، مستنداً إلى مجموعة من المرجعيات التراثية والمعاصرة، منها:* النصوص المقدسة.* التراث الفقهي.* التراث الصوفي.* الأدب العربي القديم.* المعاجم والنحو وعلوم اللغة.* السير والتاريخ وأنساب العرب.التي أسهمت في تشكيل حسّه النقدي، وجعلته قادراً على تتبع جذور الظواهر الثقافية في الذاكرة العربية. وكان للمرجعيات الحديثة من فلسفة فوكو؛ الحفريات، الخطاب، السلطة، والقطيعة المعرفية؛ غاستون باشلار، والبنيوية والسيميائيات؛ دي سوسير، رومان جاكبسون، والتفكيكية؛ جاك دريدا، الظاهراتية؛ إدموند هوسرل، والجدل الهيغلي؛ جورج فيلهلم فريدريش هيغل، والتأويلية؛ هانز جورج غادامير، بول ريكور، مارتن هايدغر.ولم يصرح السريحي بكل هذه المرجعيات باسمه، لكن أثرها واضح في أدواته التحليلية، وتجلّت في خمسة كتب مركزية شكّلت بنية مشروع السريحي؛1. حجاب العادة – أركيولوجيا الكرم (1996)يتناول فيه ظاهرة الكرم وتحولاتها، وكيف غدت قيمة ثقافية تُستخدم أحياناً للهيمنة أو التغطية على مضمرات اجتماعية.2. غواية الاسم – سيرة القهوة وخطاب التحريم (2011)يقرأ فيه السريحي علاقة المجتمع بالقهوة، وكيف تحوّلت من مشروب عادي إلى خطاب تحريم وصراع ثقافي عبر التاريخ.3. أيديولوجيا الصحراء – آفاق التجديد وسؤال الهوية (2015)يمزج فيه بين الصحراء بوصفها فضاء جغرافياً، وخطاباً ثقافياً يشكل الهوية العربية، ثم يبيّن كيف جُعلت الصحراء أداة للسلطة.4. العشق والجنون – دولة العقل وسلطان الهوى (2015)يدرس فيه علاقة العربي بالهوى والعقل، وكيف وظّفت الخطابات القديمة فكرة الجنون والعشق لإخفاء قيم أو تمرير أخرى.5. ما لم يقله الشاهد – بحث في المضمر وظروف إنتاج الخطاب (2021)وهو ذروة مشروعه، إذ يركز على الشهادة والخطاب المزدوج، وما تخفيه اللغة من سلطة أو تحيز أو تأويلات، و اعتمد مصطلحات، منها؛* الأركيولوجيا* الأيديولوجيا* التراكمية* القطيعة المعرفية* التناص* المجاز* البنية الفوقية* السياق والنسق* التفكيك* الوعي، والمقصديةكل مصطلح كان يُوظف وفق السياق، لا بطريقة نسخ حرفي للنظريات الغربية، بل وفق رؤية تأويلية نابعة من البيئة العربية.ويتضح لنا أن السريحي دخل دائرة «القلق المعرفي» بمسؤولية، فرأى الابتعاد عما لا يلائم قناعته المعرفية، وعدم الخضوع لأي مؤثرات خارجية متمثلة في ما يسمى بثقافة القطيع في بعض جوانب الثقافة، من جانب، ومن جانب آخر يبرز ذاته، ويقدم شخصيته ورؤاه باستقلالية بعيداً عن السائد الذي ربما كان مجانباً للصواب من وجهة نظره متحملاً مسؤولية أيةَ تبعات يمكن أن تواجهه حين يعلن عن رأيه ووجهة نظره في ما يخص الجوانب الثقافية، وبالأخص منها القديم، حيث قرر أن يكون لوجوده معنى يميزه، وحاول «تقويض وهدم بعض المسلّمات الثقافية»، وبنائها من جديد على طريقته استناداً إلى مؤشرات ظهرت له، ومعطيات رفدت رؤيته، عاملاً على تحرير الخطاب الثقافي من القيود التي تقف في طريق انطلاقته نحو آفاق أرحب وكسر الحاجز المتمثل في عدم المساس بالمسلمات الثقافية التي يمنع الاقتراب منها، سوى ما كان منها حقائق يقينية ثابتة، لا تحتمل الخوض فيها، أو الجدل حولها، ومارس ما يشبه «القطيعة المعرفية» مع بعض المسلّمات الثقافية، متجهاً إلى قراءة الخطابات والتشكيلات الثقافية العميقة خلافاً لما أجمع عليه الكثير من الكتاب والنقاد قديماً، ولم يكن اختياره للموضوعات (الكرم، القهوة، الجنون، الصحراء…) اعتباطياً، بل لأنها تحمل خلفيات غير معلنة، وتشير إلى ذهنية عربية مؤسسة، ولذا نجح في كشف الخطابات المقموعة أو المهمشة التي لا تُقرأ عادة في سياقاتها التاريخية، وقدّم رؤية جديدة للنقد الثقافي في المملكة العربية السعودية، مع توظيف واعٍ للمناهج الحديثة، خصوصاً التحليل الأركيولوجي، وأظهر قدرة على حشد الشواهد التاريخية والنصوصية لدعم قراءته، مع مراعاة خصوصية المجتمع العربي، وتناول موضوعاته بلغة نقدية عالية تجمع بين الدقة اللغوية والعمق الفلسفي.




