لم يعد الإعلان عن اكتشاف دواء جديد أو لقاح مبتكر محصوراً في المختبرات أو المجلات العلمية، بل أصبح مشهداً إعلامياً وسياسياً عالمياً تتسابق فيه الدول الكبرى لفرض حضورها واستعراض قدراتها العلمية. أحدث مثالين على ذلك ما جاء من موسكو وواشنطن أخيراً، إذ أعلنت روسيا عن لقاح جديد للسرطان، فيما بشّر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بعلاج للتوحد، لتشتعل سجالات علمية وصحية تكشف عن الوجه الآخر لتسييس الأدوية.
ففي موسكو، أعلن معهد «غماليا» عن لقاح يعتمد على تقنية MRNA أُطلق عليه اسم «Enteromix»، مؤكداً أنه حقق نتائج ما قبل سريرية مبشرة بنسبة فعالية عالية ضد بعض الأورام الصلبة. ورغم الضجة الإعلامية، حذّر علماء بارزون من التسرع في الاحتفاء بهذا الإنجاز قبل نشر نتائج المراحل السريرية في مجلات علمية محكمة، مشدّدين على أن فعالية اللقاح على البشر لم تثبت بعد، وأن البيانات المتاحة حتى الآن محدودة للغاية.
أما في واشنطن، فقد أثار ترمب جدلاً واسعاً حين ربط بين استخدام «الباراسيتامول» أثناء الحمل وزيادة خطر الإصابة بالتوحد، داعياً إلى تحديث التحذيرات على عبوات الدواء، وملوّحاً بعلاج جديد يدعى «ليوكوفورين» لعلاج حالات التوحد. هذه التصريحات قوبلت بتحفّظ شديد من الأوساط الطبية، إذ أكدت دراسات صادرة عن جامعات مثل ييل وهارفارد أن العلاقة بين «الباراسيتامول» والتوحد لا تزال ارتباطية وليست سببية، وأن تغيير التوصيات العلاجية بناء على بيانات غير حاسمة قد يضر بصحة الحوامل والمواليد.
المنظمات الصحية العالمية لم تتأخر في التعليق، فقد أوضحت منظمة الصحة العالمية، أن الأدلة الحالية «غير حاسمة» بشأن أي علاقة سببية بين «الباراسيتامول» والتوحد، بينما أكدت وكالة الأدوية الأوروبية أن الدواء ما زال آمناً للاستخدام عند الحاجة أثناء الحمل. هذه المواقف تعكس حرص الهيئات الدولية على منع تسييس القضايا الصحية وتأكيد أهمية الشفافية والاعتماد على الأدلة العلمية قبل اتخاذ قرارات قد تؤثر على الصحة العامة.
إن تصاعد هذه الإعلانات يطرح تساؤلات جوهرية: هل أصبحت الأدوية ساحة لتصفية الحسابات واستعراض القوة؟ ما نشهده اليوم يشي بأن العلم بات جزءاً من القوة الناعمة التي تستخدمها الدول الكبرى في سباق النفوذ، غير أن المعضلة الأخطر تكمن في أثر هذه السجالات على ثقة الناس بالعلم وعلى قراراتهم العلاجية. فكلما تحولت المختبرات إلى منصات دعائية، زاد خطر الإرباك وفقدان الثقة، وهو ما يستدعي دوراً فاعلاً للمنظمات الصحية الدولية لتثبيت الحقائق وحماية المعرفة العلمية من التسييس.