هذا هو لقاء التاريخ الدرامي بين الرئيس السوري أحمد الشرع ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بينما كانت الأبواب مفتوحة لاستقبال بشار الأسد قبل عام، ها هي اليوم ذات الأبواب تفتح أقفالها أمام الرئيس الشرع في مشهد سياسي يعكس معنى السياسة الحقيقية ومعنى التعامل مع الدول لا مع الأشخاص.
تكتسب زيارة الشرع الأولى التي تبدأ، اليوم(الأربعاء) إلى موسكو، طابعاً رمزياً وإستراتيجياً في آنٍ معاً، فرغم كل ما قيل عن انتقال سورية إلى المحور الغربي، بعد سقوط الأسد، إلا أن الإرث الإستراتيجي لسورية وموقعها السياسي، وحتى أزماتها، تجعل من خيار إغلاق أبواب «أوراسيا» غير واقعي.
إعادة تنظيم العلاقات الثنائية
وكالة الأنباء الرسمية السورية وصفت الزيارة بأنها تأتي في إطار إعادة تنظيم العلاقات الثنائية بين البلدين وبحث ملفات التعاون السياسي والاقتصادي؛ ما يعني أيضا تحولا في التفكير السياسي السوري وتجاوز الماضي الأليم بين روسيا ومن كانت تحت نيران الطيران الروسي قبل عام واحد فقط.
هذه الزيارة سبقها توطئة مسبقة باستقبال الشرع اتصالاً هاتفياً من نظيره الروسي في فبراير الماضي أكد بوتين خلاله دعم بلاده لوحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقرارها، وأبدى استعداد روسيا لإعادة النظر في الاتفاقيات التي أبرمتها روسيا مع النظام البائد، ووجوب رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية.
وبحسب ما تناولته الصحف الروسية والعربية، فإن زيارة الشرع تأتي في لحظة مفصلية من مسار إعادة تموضع سورية إقليمياً ودولياً بعد سقوط نظام الأسد، وتشير إلى رغبة دمشق وموسكو في إعادة تأسيس العلاقة بينهما على قواعد جديدة تراعي المتغيرات السياسية والعسكرية التي شهدتها السنوات الأخيرة، في وقت تسعى فيه روسيا إلى تثبيت مصالحها الإستراتيجية في سورية، خصوصاً في البحر المتوسط، بما يتجاوز علاقتها بالنظام السابق.
مستقبل القواعد الروسية
تتمحور أجندة الزيارة حول عدد من الملفات، في مقدمتها مستقبل القواعد الروسية في طرطوس وحميميم، إذ يسعى الشرع إلى التوصل إلى تفاهمات جديدة تضمن المصالح الأمنية لموسكو وفي الوقت نفسه تمنح حكومته هامشاً أكبر في إعادة بناء القرار السيادي السوري. وتشير مصادر سياسية إلى أن الرئيس الشرع يعتزم طرح ملف تسليم بشار الأسد إلى السلطات السورية لمحاكمته، وهو مطلب يضع موسكو أمام معادلة حساسة بين الحفاظ على تحالفها التاريخي مع النظام السابق، وبين الانخراط في شرعنة المرحلة الجديدة في سورية. وتتطرق المباحثات إلى مشاريع إعادة الإعمار والاستثمار الروسي في قطاعات البنية التحتية والطاقة والنقل، إضافة إلى القضايا الإقليمية التي تشهد تشابكاً في المصالح بين موسكو ودمشق، وعلى رأسها الوضع في غزة، والأزمة اللبنانية، ومستقبل التوازنات الإقليمية في شرق المتوسط.
مصالح إستراتيجية طويلة الأمد
ووفق أجندة الزيارة من الجانب الروسي، يتضح أن موسكو تسعى إلى توجيه رسالة مفادها بأن علاقتها بسورية ليست مرتبطة بشخص بشار الأسد، بل بمصالح إستراتيجية طويلة الأمد، إذ لفتت وكالة «تاس» إلى أن الزيارة تأتي في إطار «إعادة هيكلة العلاقات» بين البلدين، فيما تحدثت صحف روسية مقربة من الكرملين عن «مرحلة براغماتية جديدة» في السياسة الروسية تجاه سورية، تتيح لموسكو تثبيت وجودها العسكري والاقتصادي دون أن تتحمل كلفة سياسية للدفاع عن إرث النظام السابق.
وقد تفضي الزيارة إلى تجديد أو تعديل بعض العقود الاستثمارية الروسية في سورية، وإلى تفاهمات جديدة حول مستقبل القواعد العسكرية، مع احتمال فتح قنوات قانونية تتعلق بملف الأسد من دون اتخاذ خطوات فورية حاسمة.
في المحصلة، تندرج هذه الزيارة في سياسة «الانفتاح المتعدد» التي ينتهجها الشرع، إذ يسعى إلى عدم الانكفاء على محور واحد، إنما الحفاظ على علاقات موازية مع روسيا من جهة، ومع الدول العربية والغربية من جهة أخرى، في إطار إستراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة دمج سورية في محيطها الدولي على أسس جديدة.
مكاسب لحكومة الشرع
قدر سورية الجيوسياسي «الجديد» بعد سقوط الأسد ألا تبقى أسيرة محور دولي ذلك أن موقع سورية يفرض التشاركية السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، وبالتالي تأتي زيارة الشرع إلى موسكو ولقاء سيد الكرملين انطلاقا من المعطيات الجيوسياسية لسورية؛ وبكل تأكيد لا غنى عن سورية بالنسبة لروسيا والعكس صحيح؛ لكن الأكثر صحة بناء هذه العلاقة على أساس مفهوم الدولة لا الشخوص، ذلك أن روسيا وعلى الرغم من دعمها للأسد على مدار ١٤ عاما لم تفلح في الحفاظ عليه على حساب مصالح الشعب السوري.. وهو ما يعطي الزيارة أهمية كبيرة، ذلك أن مفاتيح أوراسيا كاملة بيد روسيا، الأمر الذي يجني مكاسب إستراتيجية لحكومة الشرع على المدى الإستراتيجي.